نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1822
وفق سنته الماضية التي بيناها. فلا تصل إلى الإيمان وقد سارت في الطريق الآخر الذي لا يؤدي إليه. لا أنها تريد الإيمان وتسلك طريقه ثم تمنع عنه، فهذا ليس المقصود بالنص. بل المقصود أنها لا تصل إلى الإيمان إلا إذا سارت وفق إذن الله وسنته في الوصول إليه من طريقه المرسوم بالسنة العامة. وعندئذ يهديها الله ويقع لها الإيمان بإذنه. فلا شيء يتم وقوعه إلا بقدر خاص به. إنما الناس يسيرون في الطريق. فيقدر الله لهم عاقبة الطريق، ويوقعها بالفعل جزاء ما جاهدوا في الله ليهتدوا..
ويدل على هذا عقب الآية:
«وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» ..
فالذين عطلوا عقولهم عن التدبر، يجعل الرجس عليهم. والرجس أبشع الدنس الروحي، فهؤلاء ينالهم ذلك الرجس بسبب تعطيلهم لمداركهم عن التعقل والتدبر، وانتهاؤهم بهذا إلى التكذيب والكفران.
ويزيد الأمر إيضاحاً بأن الآيات والنذر لا تغني عن الذين لا يؤمنون لأنهم لا يتدبرونها وهي معروضة أمامهم في السماوات والأرض:
«قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
وسواء كان عقب الآية استفهاماً أو تقريراً. فمؤداه واحد. فإن ما في السماوات والأرض حافل بالآيات ولكن الآيات والنذر لا تفيد الذين لا يؤمنون، لأنهم من قبل لم يلقوا بالا إليها، ولم يتدبروها..
وقبل أن نمضي إلى نهاية الشوط نقف لحظة أمام قوله تعالى:
«قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ..
إن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل.
ولكن الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها مراراً، هي أن بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية! وأن هذه الفطرة تسمع لهذا الكون- حين تتفتح وتستيقظ- وتسمع منه الكثير! والمنهج القرآني في تكوين التصور الإسلامي في الإدراك البشري يتكئ على ما في السماوات والأرض، ويستلهم هذا الكون ويوجه إليه النظر والسمع والقلب والعقل.. وذلك دون أن يخل بطبيعة التناسق والتوازن فيه ودون أن يجعل من هذا الكون إلهاً يؤثر في الإنسان أثر الله! كما يجدف بذلك الماديون المطموسون، ويسمون ذلك التجديف مذهباً «علمياً» يقيمون عليه نظاماً اجتماعياً يسمونه: «الاشتراكية العلمية» والعلم الصحيح من ذلك التجديف كله بريء! والنظر إلى ما في السماوات والأرض يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات وزاد من الاستجابات والتأثرات وزاد من سعة الشعور بالوجود وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.. وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله، وبجلال الله، وبتدبير الله، وبسلطان الله، وبحكمة الله، وعلم الله ...
ويمضي الزمن، وتنمو معارف الإنسان العلمية عن هذا الكون، فإن كان هذا الإنسان مهتدياً بنور الله إلى جوار هذه المعارف العلمية، زادته هذه المعارف من الزاد الذي تحصله الكينونة البشرية من التأمل في هذا الكون، والأنس به، والتعرف عليه، والتجاوب معه، والاشتراك معه في تسبيحه بحمد الله: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. ولا يفقه تسبيح كل شيء بحمد الله إلا الموصول قلبه
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1822