نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1392
السماوات والأرض وما خلق الله من شي، ولمسها بالأجل المغيب الذي يمكن وراءه الموت، ودعوتها إلى النظر في حال هذا الرسول الكريم الذي يدعو إلى الهدى، فيرميه الضالون بالجنون! ومنها خط جدلي حول آلهتهم المدعاة، وهي مجردة من خصائص الألوهية، بل من خصائص الحياة! وينتهي هذا كله بتوجيه الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى تحديهم وتحدي آلهتهم، وإعلان مفاصلته ومفارقته لهم ولمعبوداتهم وعبادتهم، والالتجاء إلى الولي الذي لا ولي غيره: «الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» ..
ولقد كانت نهاية الدرس السابق في قصة بني إسرائيل هي مشهد الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظل الجبل المرفوع. فهذا الدرس الجديد يتابعه فيبدأ بقضية الميثاق الأكبر الذي أخذه الله على فطرة البشر. في مشهد لا يدانيه في الجلال والروعة مشهد الجبل المرفوع! «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ- مِنْ ظُهُورِهِمْ- ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا! أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ. وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟ .. وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ..
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد- على طريقة القرآن الغالبة [1] - وإنه لمشهد فريد.. مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود، تؤخذ في قبضة الخالق المربي، فيسألها: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟» .. فتعترف له- سبحانه- بالربوبية وتقر له- سبحانه- بالعبودية وتشهد له- سبحانه- بالوحدانية وهي منثورة كالذر مجموعة في قبضة الخالق العظيم! إنه مشهد كوني رائع باهر، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى، وهي تجمع وتقبض. وهي تخاطب خطاب العقلاء- بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع- وهي تستجيب استجابة العقلاء، فتعترف وتقر وتشهد ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب! وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد. وهو يتمثل الذر السابح.
وفي كل خلية حياة. وفي كل خلية استعداد كامن. وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول، ويقطع على نفسه العهد والميثاق، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم! لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود.. عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة. فإذا «العلم» يقرر أن الناسلات، وهي خلايا الوراثة التي تخفظ سجل «الإنسان» وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب.. أن هذه الناسلات [1] يراجع بتوسع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1392