نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1332
والنكبات كذلك تتوالى عليهم من الجدب والآفات والجوع والبلاء.. ولكن هذا كله كان عندهم أيسر وأهون من التسليم بربوبية الله للعالمين. لما تحويه من مدلول صريح بعزلهم هم عن مزاولة هذا السلطان المغتصب، الذي يعبدون به الناس لغير رب العالمين! كذلك تتجلى من خلال عرض هذه الآيات خطوات قدر الله بالمكذبين.. من أخذهم بالبأساء والضراء.
ثم أخذهم بالرخاء والسراء. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية المطاف! والتمكين للمؤمنين الذين كانوا يستضعفون: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» ..
ولكن بني إسرائيل غلبت عليهم جبلتهم الملتوية الخبيثة. ففسقوا عن أمر الله- كما يجلو السياق القرآني ذلك- وراوغوا موسى نبيهم وزعيمهم ومنقذهم مراوغة مؤذية وعصوا وبطروا النعمة ولم يستقيموا ولم يشكروا وتكرر منهم ذلك كله بعد مغفرة الله لهم وقبولهم مرة بعد مرة، إلى أن حقت عليهم كلمة الله في النهاية: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
ولقد صدق وعيد الله.. ولا بد أن يصدق في مقبل الأيام.. وإنما هي دورات لهم في التاريخ. حتى إذا عتوا وأفسدوا وتجبروا واشتد أذاهم، بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة! وأخيرا فإن هذه السورة مكية. وقد ورد فيها عن التواء بني إسرائيل ومعصيتهم وسوء جبلتهم الكثير..
بينما يزعم المستشرقون- اليهود والصليبيون سواء- أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- لم يهاجم اليهود- بزعمهم- بهذا القرآن إلا بعد أن يئس في المدينة من استجابتهم له. وأنه كان يحاسنهم في مكة، وفي أول عهده بالمدينة.
فيقول- بزعمهم- قرآنا لا يهاجمهم فيه إنما يحدثهم عن التقاء العرب بهم في النسب إلى جدهم إبراهيم! طمعا في إسلامهم له! فلما يئس منهم هاجمهم هذا الهجوم.. وكذبوا. فهذه سورة مكية تصف الحق في شأنهم، لا فرق بين ما جاء فيها وما جاء في سورة البقرة المدنية في هذا الحق الذي لا يتبدل.. وإذا نحن تجاوزنا عن الآيات من 163 إلى 170 في هذه السورة بوصفها مدنية، وهي التي ورد فيها تأذن الله- سبحانه- بأن يرسل عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، فإن الآيات التي قبلها والتي بعدها والتي لا شك في أنها مكية تضمنت الحق في جبلة بني إسرائيل. وفيها ذكر عبادتهم للعجل.. وطلبهم من موسى أن يجعل لهم إلها صنما بينما هم خارجون من مصر باسم الله الواحد! وأخذ الرجفة لهم لأنهم أبوا الإيمان إلا أن يروا الله جهرة. وتبديلهم قول الله لهم وهم يدخلون القرية.. إلخ مما يدمغ أولئك الزاعمين من المستشرقين بالافتراء على التاريخ بعد الافتراء على الله ورسوله.. وهؤلاء هم الذين يتخذهم بعض من يكتبون عن الإسلام أساتذة لهم فيما يكتبون! وحسبنا هذه المعالم في القصة حتى نواجه نصوصها بالتفصيل.
وإذا كانت القصة بطولها مسوقة في هذه السورة- في استعراض موكب الإيمان- لتدل على خطوات قدر الله مع المكذبين، ولتصور العلاقة بين القيم الإيمانية وسنة الله في الحياة البشرية، فإنها مسوقة كذلك لبيان طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ممثلتين في شخوص القصة وأطرافها. وقد ختمت بمشهد أخذ الميثاق على بني إسرائيل، تحت المعاينة الكاملة لبأس الله الشديد: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1332