نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1298
يوجه البشرَ إلى ربهم- الذي لا رب غيره- ليدعوه في إنابة وخشوع وليلتزموا بربوبيته لهم، فيلتزموا حدود عبوديتهم له لا يعتدون على سلطانه ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم، بعد أن أصلحها الله بمنهجه:
«ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً، إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .
إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة، إلى الدعاء والإنابة.. تضرعاَ وتذللاً وخفية لا صياحاً وتصدية! فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه.
أخرج مسلم- بإسناده عن أبي موسى- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر- وفي رواية غزاة- فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس أربعوا (أي ارفقوا وهونوا) على أنفسكم. إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً. إنكم تدعون سميعاً قريباً. وهو معكم» ..
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء. ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح! وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله، فيما يدعونه لأنفسهم- في الجاهلية- من الحاكمية التي لا تكون إلا لله. كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى، وقد أصلحها الله بالشريعة.. والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب، لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها.. فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر. والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس. وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
«وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً» ..
خوفاً من غضبه وعقابه. وطمعاً في رضوانه وثوابه.
«إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ..
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم.. كما جاء في الوصف النبوي للإحسان.
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة لا تسمع نطقها، ولا تستشعر إيقاعها.. إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل، والزرع النامي، والحياة النابضة بعد الموت والخمود:
«وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ..
إنها آثار الربوبية في الكون. آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير. وكلها من صنع الله الذي لا ينبغي أَن يكون للناس رب سواه. وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد.
وفي كل لحظة تهب ريح. وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً. وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1298