نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1207
عَلِيمٌ.. وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا! وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» ..
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل، يوم يحشرهم جميعا.. ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة.
وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة. فتقدير الكلام، «ويوم يحشرهم جميعا» - فيقول-امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ... »
ولكن حذف كلمة- يقول- ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة ويحيل السياق من مستقبل ينتظر، إلى واقع ينظر! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب [1] ...
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض:
«يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ!» ..
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس، المستمعين لإيحائكم، المطيعين لوسوستكم، المتبعين لخطواتكم..
وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس! إنما يقصد به تسجيل الجريمة- جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض! - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء.. ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون:
«وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا!» ..
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع.. لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار، ومن المكابرة والاستهتار، ومن الإثم ظاهره وباطنه! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال.. كانت تستهويهم وتعبث بهم وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون! ومن ثم يقولون:
«رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ!» ..
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة، حتى حان الأجل، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع:
«وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» ! عند ذلك يجيء الحكم الفاصل، بالجزاء العادل:
«قالَ: النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها- إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ-» فالنار مثابة ومأوى. والمثوى للإقامة. وهي إقامة الدوام.. «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي. فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور. والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد. ولا في مقرراتها هي.
«إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» . [1] يراجع كتاب: «التصوير الفني في القرآن» فصل: «التصوير الفني» وفصل: «طريقة القرآن» . «دار الشروق» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1207