نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1203
في قلب بشر، وفي واقع ناس، وفي حركة تاريخ. وتتجرد فيها كينونة بشرية من حظ ذاتها لتخلص لله كاملة، لا خلوص النية والعمل وحده، ولكن كذلك خلوص المحل الذي يملؤه هذا الأمر الخطير. فذات الرسول- صلى الله عليه وسلم- تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة. وهي لا تتصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقي المباشر الكامل بلا عوائق ولا سدود..
والله وحده- سبحانه- هو الذي يعلم أين يضع رسالته، ويختار لها الذات التي تنتدب من بين ألوف الملايين، ويقال لصاحبها: أنت منتدب لهذا الأمر الهائل الخطير.
والذين يتطلعون إلى مقام الرسالة أو يطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي الرسول.. هم أولا من طبيعة لا تصلح أساساً لهذا الأمر. فهم يتخذون من ذواتهم محوراً للوجود الكوني! والرسل من طبيعة أخرى، طبيعة من يتلقى الرسالة مستسلما، ويهب لها نفسه، وينسى فيها ذاته، ويؤتاها من غير تطلع ولا ارتقاب: «وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ، إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» .. ثم هم بعد ذلك جهال لا يدركون خطورة هذا الأمر الهائل، ولا يعلمون أن الله وحده هو الذي يقدر بعلمه على اختيار الرجل الصالح..
لذلك يجبههم الرد الحاسم:
«اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» ..
وقد جعلها سبحانه حيث علم، واختار لها أكرم خلقه وأخلصهم، وجعل الرسل هم ذلك الرهط الكريم، حتى انتهت إلى محمد خير خلق الله وخاتم النبيين.
ثم التهديد بالصغار والهوان على الله، وبالعذاب الشديد المهين:
«سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» ..
والصغار عند الله يقابل الاستعلاء عند الأتباع، والاستكبار عن الحق، والتطاول إلى مقام رسل الله! ..
والعذاب الشديد يقابل المكر الشديد، والعداء للرسل، والأذى للمؤمنين.
ثم تختم الجولة بتصوير حالة الهدى وحالة الإيمان في داخل القلوب والنفوس:
«فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ.. كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» ..
من يقدر الله له الهداية- وفق سنته الجارية من هداية من يرغب في الهدى ويتجه إليه بالقدر المعطى له من الاختيار بقصد الابتلاء- «يشرح صدره للإسلام» فيتسع له ويستقبله في يسر ورغبة، ويتفاعل معه، ويطمئن إليه ويستروح به ويستريح له.
ومن يقدر له الضلال- وفق سنته الجارية من إضلال من يرغب عن الهدى ويغلق فطرته عنه- «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» .. فهو مغلق مطموس يجد العسر والمشقة في قبوله، «كأنما يصعد في السماء» .. وهي حالة نفسية تجسم في حالة حسية، من ضيق النفس، وكربة الصدر، والرهق المضني في التصعد إلى السماء! وبناء اللفظ ذاته «يصعد» - كما هو في قراءة حفص- فيه هذا العسر والقبض والجهد.
وجرسه يخيل هذا كله، فيتناسق المشهد الشاخص، مع الحالة الواقعة، مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد [1] .
وينتهي المشهد بهذا التعقيب المناسب: [1] يراجع فصل «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» . [.....]
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 3 صفحه : 1203