responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 6  صفحه : 317
فَكَأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ يَرَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ وَضْعِ اللهِ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَبَيَانِ مَا أَعَدَّهُ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ لِلْعُصَاةِ فِي الْآخِرَةِ، يَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ الدَّلَائِلِ عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى قَوْلِهِمْ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَإِثْبَاتِ كَوْنِهِمْ بَشَرًا مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِهِ، يُعَذِّبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ بِالشَّرْعِ وَبِالْفِعْلِ كَمَا يُعَذِّبُ غَيْرَهُمْ، كَمَا يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ. وَتَشْهَدُ بِذَلِكَ شَرِيعَتُهُمْ ذَاتُ الْعُقُوبَاتِ الْقَاسِيَةِ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ، أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا بِالْحَرْبِ وَالسَّبْيِ وَالْأَمْرَاضِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَا ذِكْرُ الْعَذَابِ عَلَى ذِكْرِ الرَّحْمَةِ، خِلَافًا لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْمَغْفِرَةِ عَلَى الْعَذَابِ، وَمِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي رَدَّ اللهُ فِيهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ زَعْمَهُمْ أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ; إِذْ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (5: 18) وَحِكْمَةُ هَذَا التَّقْدِيمِ هُنَا تَرْتِيبُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ بَيَانِ عِقَابِ السَّارِقِ أَوَّلًا، وَذِكْرِ تَوْبَتِهِ ثَانِيًا. فَهِيَ لَا تُنَافِي كَوْنَ الرَّحْمَةِ الْمُطْلَقَةِ سَابِقَةً وَمُقَدَّمَةً عَلَى الْعَذَابِ الْمُطْلَقِ.
وَاسْتَدَلَّ الرَّازِيُّ وَأَمْثَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ التَّائِبِينَ الْمُصْلِحِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَلَوْ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ، وَيَرْحَمَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ بِتَخْلِيدِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَاطَ التَّعْذِيبَ وَالرَّحْمَةَ بِالْمَشِيئَةِ، وَرَتَّبَهُ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكَ الْمُلْكِ، وَالْمَالِكُ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ، وَمَا حَسَّنَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ وَاسْتِنْبَاطَ مِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ لَهُ إِلَّا تَوَجُّهُ ذَكَائِهِمْ وَفَهْمِهِمْ إِلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ ; أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِعِبَادِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بِنَصِّهِ أَحَدٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَقَلِيلُ الْأَدَبِ ; لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنْ هُنَالِكَ سُلْطَانًا فَوْقَ سُلْطَانِ اللهِ، سُبْحَانَهُ، يُوجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَشَاعِرَةَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُنْكِرُوا وَلَا أَنْ
يَتَأَوَّلُوا مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَشَاءُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِيًا لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَا لِتَقْيِيدِ مَشِيئَتِهِ بِسُلْطَةِ سِوَاهُ، وَلَا هُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُعَطِّلَةً لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِذًا لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُلْكِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمَالِكُ حَسَنًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْمَالِكُ ; إِذِ الْأَمْرُ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي يَمْلِكُ عِدَّةَ عَبِيدٍ، فَيَظْلِمُ الْمُحْسِنَ مِنْهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ مِنْهُ، وَيُحْسِنُ إِلَى الْفَاسِقِ الْمُسِيءِ الْمُفْسِدِ فِي دَارِهِ وَمُلْكِهِ، يُعَدُّ ظَالِمًا مَذْمُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، وَلُغَةً وَعُرْفًا، وَأَمَّا كَوْنُ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ اللهُ تَعَالَى فَهُوَ حَقٌّ وَحَسَنٌ، فَلَيْسَ سَبَبُهُ أَنَّهُ الْمَالِكُ، وَكَوْنُ الْمَالِكِ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ فِي مُلْكِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ الْمَالِكُ، بَلْ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ وَالنَّقْصِ، مُتَّصِفٌ بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، فَتَقْدِيسُهُ وَتَنْزِيهُهُ وَكَمَالُهُ يَتَجَلَّى فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا لَا فِي اسْمِ الْمَلِكِ وَالْمَالِكِ وَالْمُرِيدِ فَحَسْبُ.

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 6  صفحه : 317
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست