responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 6  صفحه : 286
كَلِمَةُ " التَّشْجِيعِ " الْمَأْثُورَةُ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَهَابُ قَتْلَ أَخِيهِ، وَتَجْبُنُ فِطْرَتُهُ دُونَهُ، فَمَا زَالَتْ نَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ تُشَجِّعُهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَجَرَّأَ وَقَتَلَ عَقِبَ التَّطْوِيعِ بِلَا تَفَكُّرٍ وَلَا تَدَبُّرٍ لِلْعَاقِبَةِ (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أَيْ مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، بِإِفْسَادِ فِطْرَتِهَا، وَخَسِرُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْأَخُ الصَّالِحُ التَّقِيُّ، وَخَسِرُوا نَعِيمَ الْآخِرَةِ ; إِذْ لَمْ يَعُودُوا أَهْلًا لَهَا ; لِأَنَّهَا دَارُ الْمُتَّقِينَ.
(فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَتْلُ أَوَّلَ قَتْلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَلْقِ - أَيِ الْإِنْسَانِ - مَوْكُولًا إِلَى كَسْبِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي عَامَّةِ أَعْمَالِهِ، لَمْ يَعْرِفِ الْقَاتِلُ الْأَوَّلُ كَيْفَ يُوَارِي جُثَّةَ أَخِيهِ الْمَقْتُولِ، الَّتِي يَسُوؤُهُ أَنْ يَرَاهَا بَارِزَةً - فَالسَّوْءَةُ مَا يَسُوءُ ظُهُورُهُ، وَرُؤْيَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَقْتُولُ، يَسُوءُ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيُوحِشُهُ - وَأَمَّا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَتُلْهَمُ عَمَلَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلْهَامًا فِي الْأَكْثَرِ، وَقَلَّمَا يَتَعَلَّمُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ شَيْئًا. وَقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَاتِلَ الْأَوَّلَ تَعَلَّمَ دَفْنَ أَخِيهِ مِنَ الْغُرَابِ، وَيَدُلُّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي نَشْأَتِهِ الْأُولَى كَانَ فِي مُنْتَهَى السَّذَاجَةِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِعْدَادِهِ الَّذِي يَفْضُلُ بِهِ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ كَانَ يَسْتَفِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَاخْتِبَارًا وَيَرْتَقِي بِالتَّدْرِيجِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ غُرَابًا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَبَحَثَ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ حَفَرَ بِرِجْلَيْهِ فِيهَا، يُفَتِّشُ عَنْ شَيْءٍ، وَالْمَعْهُودُ أَنَّ الطَّيْرَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الطَّعَامِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْغُرَابَ أَطَالَ الْبَحْثَ فِي الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ قَالَ " يَبْحَثُ " وَلَمْ يَقُلْ بَحَثَ، وَالْمُضَارِعُ يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ، فَلَمَّا أَطَالَ الْبَحْثَ أَحْدَثَ حُفْرَةً فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْحُفْرَةَ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي أَمْرِ مُوَارَاةِ سَوْءَةِ أَخِيهِ، زَالَتِ الْحَيْرَةُ، وَاهْتَدَى إِلَى مَا يَطْلُبُ، وَهُوَ دَفْنُ أَخِيهِ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْأَرْضِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ مِنْ عَادَةِ الْغُرَابِ دَفْنُ الْأَشْيَاءِ، فَجَاءَ غُرَابٌ فَدَفَنَ شَيْئًا، فَتَعَلَّمَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنِ اللهَ بَعَثَ غُرَابَيْنِ لَا وَاحِدًا، وَإِنَّهُمَا اقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ حُفْرَةً أَلْقَاهُ فِيهَا، وَمَا جَاءَ هَذَا إِلَّا مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي مَصْدَرُهَا الْإِسْرَائِيلِيَّاتُ، عَلَى أَنَّ مَسْأَلَةَ
الْغُرَابِ وَالدَّفْنِ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ، لَا فَائِدَةَ لَهَا وَلَا صِحَّةَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيُرِيَهُ) لِلتَّعْلِيلِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى اللهِ تَعَالَى ; أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى أَلْهَمَ الْغُرَابَ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ ابْنُ آدَمَ مِنْهُ الدَّفْنَ، وَلِلصَّيْرُورَةِ وَالْعَاقِبَةِ إِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْغُرَابِ ; أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ بَحْثِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَمَّا رَأَى الْقَاتِلُ الْغُرَابَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُ سُنَّةَ الدَّفْنِ، وَظَهَرَ لَهُ مِنْ ضَعْفِهِ وَجَهْلِهِ مَا كَانَ غَافِلًا عَنْهُ (قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ " يَاوَيْلَتَا " كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وَتَلَهُّفٍ

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 6  صفحه : 286
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست