responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 3  صفحه : 14
بَعْدَ أَنْ ذَكَّرَنَا اللهُ - تَعَالَى - بِالرُّسُلِ وَمَا كَانَ مِنْ أَقْوَامِهِمْ بَعْدَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالِاقْتِتَالِ، عَادَ إِلَى أَمْرِنَا بِالْإِنْفَاقِ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ. هُنَالِكَ يَقُولُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ [2: 245] وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى مَا فِي هَذَا الْخِطَابِ مِنَ اللُّطْفِ وَالْبَلَاغَةِ، وَأَزِيدُ هُنَا أَنَّ هَذَا اللُّطْفَ إِنَّمَا يَفْعَلُ فِعْلَهُ وَيَبْلُغُ نِهَايَةَ تَأْثِيرِهِ فِيمَنْ بَلَغَ فِي الْإِيمَانِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، وَعَرَّجَ فِي الْكَمَالِ إِلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ، وَلَطُفَ وِجْدَانُهُ وَشُعُورُهُ، وَتَأَلَّقَ ضِيَاؤُهُ وَنُورُهُ، وَمَا كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ يُدْرِجُونَ فِي هَذِهِ الْمَدَارِجِ، أَوْ يَرْتَقُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِجِ؛، فَالْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ يَفْعَلُ فِي نُفُوسِهِمُ التَّرْهِيبُ مَا لَا يَفْعَلُ التَّرْغِيبُ، فَهُمْ لَا يَتَّفِقُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ أَوْ طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْغُرُورُ بِشَفَاعَةٍ تُغْنِي هُنَالِكَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ فِدْيَةٍ تَقِي صَاحِبَهَا عَاقِبَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّلَلِ، فَأَمْثَالُ
هَؤُلَاءِ يُعَالَجُونَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ: " لَا بَيْعَ " وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْفَتْحِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ.
قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْفَاقِ هُنَا الْإِنْفَاقُ الْوَاجِبُ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ يَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ يَشْتَمِلُ الْمَنْدُوبَ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا وَقَعَ الْفَسَادُ فِي الْأُمَّةِ وَتَوَقَّفَتْ إِزَالَتُهُ عَلَى الْمَالِ أَنْ يَبْذُلُوهُ لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْفَاشِيَةِ وَالْغَوَائِلِ الْغَاشِيَةِ، وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
أَقُولُ: وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْضَ مَا جَعَلَهُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ مَنْ رِزْقِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الطَّلَبِ بِصِيغَةِ الْإِقْرَاضِ؟
كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّنَا مَا رَزَقْنَاكُمُ الرِّزْقَ الْحَسَنَ وَاسْتَخْلَفْنَاكُمْ فِيهِ إِلَّا وَقَدْ نَقَلْنَاهُ مِنْ أَيْدِي قَوْمٍ أَسَاءُوا التَّصَرُّفَ فَحَبَسُوا الْمَالَ وَأَمْسَكُوهُ عَنِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ الَّتِي يَرْتَقِي بِهَا شَأْنُ الْبَشَرِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَوْمَهُمْ بِبُخْلِهِمْ، فَكَانُوا كَافِرِينَ بِنِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ، إِذْ لَمْ يَضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا ; وَلِذَلِكَ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
أَمَّا الْبَيْعُ وَالْخُلَّةُ وَالشَّفَاعَةُ فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ بِنَفْيِهَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ الْكَسْبُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُبَادَلَةِ وَالْمُعَارَضَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْخُلَّةِ - وَهِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِلْقَرَابَةِ وَغَيْرِهَا - لَازِمُهَا، وَهُوَ مَا يَكُونُ وَرَاءَهَا مِنَ الْكَسْبِ كَالصِّلَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ. وَبِالشَّفَاعَةِ - وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ - لَازِمُهَا فِي الْكَسْبِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ إِقْطَاعَاتِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا بِالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِمْ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُمْ، فَهَذِهِ الثَّلَاثُ مِنْ طَرَائِقِ جَمْعِ الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ يَقُولُ - مَا مَعْنَاهُ -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بَادِرُوا إِلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِمَّا تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَأَنْتُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 3  صفحه : 14
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست