responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 371
مُتَصَدِّعًا مِنْ هَيْبَةِ اللهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، عَمِلَ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ قَوْمٌ فَسَعِدُوا، وَتَرَكَهَا آخَرُونَ فَشَقُوا، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَاتَ الْأَوَّلِينَ قَصَدُ مَرْضَاةِ اللهِ بِإِقَامَةِ سُنَّتِهِ فَحُرِمُوا ثَوَابَ الْآخِرَةِ، فَقَدْ خَسِرَ الْآخِرُونَ بِتَرْكِهَا السَّعَادَتَيْنِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((الْقَرْضُ الْحَسَنُ: الْمُجَاهَدَةُ وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ)) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَمِنْ مَحَاسِنِ عِبَارَاتِ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا: أَنَّ لَفْظَ الْمُضَاعَفَةِ هُنَا لِلْمُبَالَغَةِ بِمَا فِي الصِّيغَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ (فَيُضَاعِفُهُ) بِالضَّمِّ بِتَقْدِيرِ: فَهُوَ يُضَاعِفُهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالنَّصْبِ لِوُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَعْرُوفِ فِي قَوَاعِدِ النَّحْوِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (فَيُضَعِّفُهُ) بِالرَّفْعِ وَالتَّشْدِيدِ، وَابْنُ يَعْقُوبَ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ وَالتَّضْعِيفِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّكْرَارِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَالْبَزِّيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (يَبْصُطُ) بِالصَّادِ، وَهِيَ لُغَةٌ، كَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا تَفْخِيمُ السِّينِ لِمُجَاوِرَةِ الطَّاءِ، يَقْبِضُ الرِّزْقَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ فَيَجْهَلُونَ طُرُقَهُ الَّتِي هِيَ سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يَضْعُفُونَ
فِي سُلُوكِهَا، وَيَبْسُطُهُ لِمَنْ يَشَاءُ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَيَفْتَحُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُغْنِيَ فَقِيرًا وَيُفْقِرَ غَنِيًّا لَفَعَلَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ وَبِيَدِهِ الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، وَهُوَ وَاضِعُ السُّنَنِ الْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْمُوَفِّقُ لِلسَّيْرِ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ حَضُّهُ الْأَغْنِيَاءَ عَلَى مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ مِنْ حَاجَةٍ بِهِ أَوْ عَجْزٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، كَلَّا، بَلْ هِيَ هِدَايَتُهُ الْإِنْسَانَ إِلَى طَرِيقِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ بِمَا يَحْفَظُهَا وَيُفْضِي إِلَى الْمَزِيدِ فِيهَا، حَتَّى يَبْلُغَ كَمَالَهُ الِاجْتِمَاعِيَّ الَّذِي أَعَدَّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: يَقْبِضُ بَعْضَ الْأَيْدِي عَنِ الْبَذْلِ، وَيَبْسُطُ بَعْضَهَا بِالْفَضْلِ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْآيَةِ وَلَا يَظْهَرُ بَعْدَهُ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ; أَيْ: لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى عَمَلٍ لَنَا فِيهِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ، لَا عَلَى مَا تُصَرِّفُهُ الْأَقْدَارُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذَا التَّعْقِيبَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. أَقُولُ يُرِيدُ عِقَابَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا عِقَابَ الدُّنْيَا فَهُوَ أَظْهَرُ; لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لِأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْأُمَمِ، إِذْ لَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ عَزِيزَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ بَذْلَ أَغْنِيَائِهَا الْمَالَ لِنَشْرِ الْعُلُومِ وَإِتْقَانِ الْأَعْمَالِ، وَتَعَاوُنِ أَفْرَادِهَا عَلَى مَصْلَحَتِهَا هِيَ أَسْبَابُ عِزَّتِهَا وَرِفْعَتِهَا، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي حَالِ أُمَّةٍ ذَلِيلَةٍ مَقْهُورَةٍ إِلَّا وَيَرَوْنَ أَغْنِيَاءَهَا مُمْسِكِينَ وَأَفْرَادَهَا غَيْرَ مُتَعَاوِنِينَ، فَعَلِمْنَا بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) إِلَخْ. بَيَانٌ لِطَرِيقِ الْمُضَاعَفَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَتَذْكِيرٌ بِاللهِ وَبِتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ وَبِمَصِيرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ; أَيْ: فَهُوَ يُضَاعِفُ لَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ. وَقَدْ عَهِدْنَا فِي الْقُرْآنِ خَتْمَ آيَاتِ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَاتِهِ.

نام کتاب : تفسير المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 2  صفحه : 371
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست