قال: حضرتنى هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الآية، فذكرت ما أعطانى الله تعالى، فلم أجد أحب إلىّ من مرجانة (جارية رومية) فقلت هى حرة لوجه الله، فلو أني أعود في شىء جعلته لله تعالى لنكحتها، فأنكحتها نافعا (مولى له كان يحبه كأحد أولاده) .
فتأمل وانظر تر أن نفسه قد راودته بعد عتقها على أن يستبقيها له ولا يفارقها، لولا أن كان مما عوّد نفسه عليه ألا يرجع في شىء جعله لله، ومع ذلك جعلها لأحب الناس إليه، وهو مولاه وعلى الجملة فآثار السلف في الإبثار وبذل المال ابتغاء مرضاة الله كثيرة.
فقد روى أن ابن عمر اشتهى سمكة بمكة وكان قد نقه من مرض، فبحث عنها فى المدينة فلم توجد، وبعد مدة وجدت، فاشتريت بدرهم ونصف الدرهم، فشويت وجىء بها على رغيف، فجاء سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام: لفّها برغيفها وادفعها إليه، فأبى الغلام فردّه وأمره أن يدفعها إليه، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرّحمن، فقد أعطيته ذرهما وأخذتها، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيّما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته وآثر على نفسه إلا غفر الله له» .
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلانا كان أحوج منى إليه فبعث به إليه، فلما وصل إليه قال: إن فلانا كان أحوج منى إليه، فلم يزل يبعث به كل واحد منهم إلى آخر حتى تناوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.
وفي هذه الآثار وأمثالها ما ينبغى أن يكون عظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيقتدى بأولئك الأبرار الطاهرين، ويجعلهم المثل العليا للبذل في سبيل الله.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي أىّ شىء تنفقونه في سبيل الله طيبا أو خبيثا فالله مجازيكم به بحسب ما يعلم من نيتكم، ومن مواقع ذلك في قلوبكم،