responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 21  صفحه : 53
حَقِيقٌ كَمَا يَقُولُ الْأَبُ لِابْنِهِ الْقَائِمِ بِبِرِّهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا تَعْرِيفَ النَّكِرَةِ بِلَامِ الْجِنْسِ دَالًّا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ فِي نَحْوِ: أَنْتَ الْحَبِيبُ، لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ يُؤْذِنُ بِكَمَالِهِ فِي صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ حَقُّ كُلِّ نَوْعٍ بِالصِّفَاتِ الَّتِي بِهَا قَابِلِيَّتُهُ، وَمَنْ يَنْظُرْ فِي الْقَابِلِيَّاتِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ يَجِدْ كُلَّ الْأَنْوَاعِ مَخْلُوقَةً عَلَى حُدُودٍ خَاصَّةٍ بِهَا إِذَا هِيَ بَلَغَتْهَا لَا تَقْبَلُ أَكْثَرَ مِنْهَا فَالْفَرَسُ وَالْبَقَرَةُ وَالْكَلْبُ الْكَائِنَاتُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ وَإِلَى زَمَنِ آدَمَ لَا تَتَجَاوَزُ الْمُتَأَخِّرَةُ مِنْ أَمْثَالِهَا حُدُودَهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فَهِيَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ تَجَارِبُ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ لِأَجْيَالِهَا الْحَاضِرَةِ، وَأَخْبَارُ النَّاسِ الْمَاضِينَ عَنِ الْأَجْيَالِ الْمُعَاصِرَةِ لَهَا، وَقِيَاسُ مَا كَانَ قَبْلَ أَزْمَانِ التَّارِيخِ عَلَى الْأَجْيَالِ الَّتِي انْقَرَضَتْ قَبْلَهَا حَاشَا نَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَهُ بِقَابِلِيَّةٍ لِلزِّيَادَةِ فِي كَمَالَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ تَجَدُّدِ الْأَجْيَالِ فِي الْكَمَالِ وَالِارْتِقَاءِ وَجَعَلَهُ السُّلْطَانَ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ وَالْمُتَصَرِّفَ فِي أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِ عَالَمِهِ كَمَا قَالَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] وَذَلِكَ بِمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْعَقْلِ. وَدَلَّتِ الْمُشَاهَدَةُ عَلَى تَفَاوُتِ أَفْرَادِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي كَمَالِ مَا يَصْلُحُ لَهُ تَفَاوُتًا مُتَرَامِيَ الْأَطْرَافِ، كَمَا قَالَ الْبُحْتُرِيُّ:
وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوُتًا ... لَدَى الْفَضْلِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ
فَدَلَّتِ التَّجْرِبَةُ فِي الْمُشَاهَدَةِ كَمَا دَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَنِ الْمَاضِي وَقِيَاسُ مَا قَبْلَ التَّارِيخِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، كُلُّ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَجْلِ هَذَا التَّفَاوُتِ كَلَّفَ الْإِنْسَانَ خَالِقُهُ بِقَوَانِينَ لِيَبْلُغَ مُرْتَقَى الْكَمَالِ الْقَابِلَ لَهُ فِي زَمَانِهِ، مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ زَمَانِهِ، وَلِيَتَجَنَّبَ إِفْسَادَ نَفْسِهِ وَإِفْسَادَ بَنِي نَوْعِهِ، وَقَدْ كَانَ مَا أُعْطِيَهُ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ شُعَبِ الْعَقْلِ مُخَوِّلًا إِيَّاهُ أَنْ يَفْعَلَ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَأَنْ يَتَوَخَّى الصَّوَابَ أَوْ أَنْ لَا يَتَوَخَّاهُ، فَلَمَّا كَلَّفَهُ خَالِقُهُ بِاتِّبَاعِ قَوَانِينِ شَرَائِعِهِ ارْتَكَبَ وَاجْتَنَبَ فَالْتَحَقَ تَارَةً بِمَرَاقِي كَمَالِهِ، وَقَصَّرَ تَارَةً عَنْهَا قُصُورًا مُتَفَاوِتًا، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ لَا يُهْمَلَ مُسْتَرْسِلًا فِي خُطُوَاتِ الْقُصُورِ وَالْفَسَادِ، وَذَلِكَ إِمَّا بِتَسْلِيطِ قُوَّةٍ مُلْجِئَةٍ عَلَيْهِ تَسْتَأْصِلُ الْمُفْسِدَ وَتَسْتَبْقِي الْمُصْلِحَ، وَإِمَّا بِإِرَاضَتِهِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاحِ حَتَّى يَصِيرَ مُنْسَاقًا إِلَى الصَّلَاحِ بِاخْتِيَارِهِ الْمَحْمُودِ، إِلَّا أَنَّ حِكْمَةً أُخْرَى رَبَّانِيَّةً اقْتَضَتْ بَقَاءَ عُمْرَانِ الْعَالَمِ وَعَدَمَ اسْتِئْصَالِهِ، وَبِذَلِكَ تَعَطَّلَ اسْتِعْمَالُ الْقُوَّةِ

نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 21  صفحه : 53
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست