responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 2  صفحه : 159
فِي الْأَجْسَادِ، فَتَقْوَى الطَّبَائِعُ الْحَيَوَانِيَّةُ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْقُوَّةِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ. وَتَطْغَيَانِ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، فَجَاءَتِ الشَّرَائِعُ بِشَرْعِ الصِّيَامِ، لِأَنَّهُ يَفِي بِتَهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى، إِذْ هُوَ يُمْسِكُ الْإِنْسَانَ عَنِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مُثِيرَاتِ إِفْرَاطِهَا، فَتَكُونُ نَتِيجَتُهُ تَعْدِيلَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ مَظِنَّةُ الِاكْتِفَاءِ بِهَا إِلَى أَوْقَاتٍ أُخْرَى.
وَالصَّوْمُ بِمَعْنَى إِقْلَالِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَبْلُغُ حَدَّ الشِّبَعِ أَوْ تَرْكِ بَعْضِ الْمَأْكَلِ: أَصْلٌ قَدِيمٌ مِنْ أُصُولِ التَّقْوَى لَدَى الْمِلِّيِّينَ وَلَدَى الْحُكَمَاءِ الْإِشْرَاقِيِّينَ، وَالْحِكْمَةُ الْإِشْرَاقِيَّةُ مَبْنَاهَا عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِإِزَالَةِ كُدُرَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ عَنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ قُوَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا رُوحَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأُخْرَى حَيَوَانِيَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي قَرَارَتِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَإِذْ كَانَ الْغِذَاءُ يُخَلِّفُ لِلْجَسَدِ مَا يُضَيِّعُهُ مِنْ قُوَّتِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِضَاعَةً تَنْشَأُ عَنِ الْعَمَلِ الطَّبِيعِيِّ لِلْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَلَا جَرَمَ كَانَتْ زِيَادَةُ الْغِذَاءِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ تُوَفِّرُ لِلْجِسْمِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُهُ وَكَانَ نُقْصَانُهُ يُقَتِّرُ عَلَيْهِ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ حِفْظُ الْحَيَاةِ بِدُونِهِ، وَكَانَ تَغَلُّبُ مَظْهَرِ إِحْدَى الْقُوَّتَيْنِ بِمِقْدَارِ تَضَاؤُلِ مَظْهَرِ الْقُوَّةِ الْأُخْرَى، فَلِذَلِكَ وَجَدُوا أَنَّ ضَعْفَ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ يُقَلِّلُ مَعْمُولَهَا فَتَتَغَلَّبُ الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ عَلَى الْجَسَدِ وَيَتَدَرَّجُ بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى يَصِيرَ صَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْأَرْوَاحِ وَالْمُجَرَّدَاتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَوَانِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَّا حَيَاةُ الْجِسْمِ الْحَافِظَةُ لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ تَعْدِيلُ مِقْدَارِ هَذَا التَّنَاقُصِ بِكَيْفِيَّةٍ لَا تُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُضَيِّعُ الْمَقْصُودَ مِنْ تَزْكِيَةِ
النَّفْسِ وَإِعْدَادِهَا لِلْعَوَالِمِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَهَذَا التَّعَادُلُ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ هُوَ أَصْلُ مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ فِي الْمِلَلِ وَوَضْعِيَّتِهِ فِي حِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ تَخْتَلِفُ الشَّرَائِعُ اخْتِلَافًا مُنَاسِبًا لِلْأَحْوَالِ الْمُخْتَصَّةِ هِيَ بِهَا بِحَيْثُ لَا يَفِيتُ الْمَقْصِدُ مِنَ الْحَيَاتَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَفْضَلَ الْكَيْفِيَّاتِ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْغَرَضِ مِنَ الصِّيَامِ هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ.
قِيلَ فِي «هَيَاكِلِ النُّورِ» [1] «النُّفُوسُ النَّاطِقَةُ مِنْ جَوْهَرِ الْمَلَكُوتِ إِنَّمَا شَغَلَهَا عَنْ عَالَمِهَا الْقُوَى الْبَدَنِيَّةُ وَمُشَاغَلَتُهَا، فَإِذَا قَوِيَتِ النَّفْسُ بِالْفَضَائِلِ الرُّوحَانِيَّةِ وَضَعُفَ سُلْطَانُ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَتَكْثِيرِ السَّهَرِ تَتَخَلَّصُ أَحْيَانًا إِلَى عَالَمِ الْقُدْسِ وَتَتَّصِلُ بِأَبِيهَا الْمُقَدَّسِ وَتَتَلَقَّى مِنْهُ الْمَعَارِفَ» ، فَمِنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الْبَرَاهِمَةِ أَكْلَ لُحُومِ الْحَيَوَانِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى النَّبَاتِ

[1] هُوَ للسهروردي.
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 2  صفحه : 159
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست