ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء.
فأكثر الخلق بل كلهم- إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه. ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا "وتعتبا" على القدر وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم. فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... فكيف بظالم جان جهول
وقل: يانفس مأوى كل سوء ... أترجو الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوأى ... تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل
وليس لها ولا منها ولكن ... ن الرحمن فاشكر للدليل اهـ.
قوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [1]. قال ابن جرير في تفسيره: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يُظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به. وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. يقول -تعالى ذكره-: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني دائرة العذاب تدور عليهم به.
واختلف القراء في قراءة ذلك: فقرأته عامة قراء الكوفة {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بفتح السين. وقرأ بعض قراء البصرة "دائرة السوء" بالضم. وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين. وقلّ ما تقول العرب "دائرة السوء" بضم السين.
وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [1] يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم. يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} [1] يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة {وَسَاءَتْ مَصِيراً} يقول: وساءت جهنم منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.
وقال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [1] أي يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية؛ ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} . وذكر في معنى الآية الأخرى نحوا مما ذكره ابن جرير -رحمهما الله تعالى-.
قوله: " قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-" الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره. [1] سورة الفتح آية: 6.