فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله.
وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة-، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة. فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جُهينة فيتحاكما إليه " [1]. فنزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [2] الآية.
وقد وصف الله المشركين بأتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [3]. وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع. ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص: الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما; ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله[4] فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما، وبهذا يكون الدين كله لله. ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك. انتهى ملخصا.
ومناسبة الحديث للترجمة: بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم.
قوله: "وقال الشعبي". هو عامر بن شراحيل الكوفي، عالم أهل زمانه;
وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله".
وكان حافظا علامة ذا فنون. كان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء"[5]، وأدرك خلقا كثيرا من الصحابة، وعاش بضعا وثمانين سنة. قاله الذهبي. [1] ضعيف بهذا اللفظ. رواه ابن جرير (5/ 97) مرسلا. وأما السبب الذي ذكره المصنف بقوله: "وقيل: نزلت في رجلين ... فموضوع. فقد علقه الواحدي في أسباب النزول ص 107 , 108، والبغوي في تفسيره (1/ 552) . وفي إسناده كذاب. وقد صح في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه الطبراني (12045) وغيره عن ابن عباس قال: "كان أبو بردة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه, فتنافر إليه أناس من المسلمين فأنزل الله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون) الآية. قال الهيثمي (7/ 6) : رجاله رجال الصحيح, وقال الحافظ في الإصابة (4/ 19) : وسنده جيد; وأفاده الدوسري في النهج السديد (449) . [2] سورة النساء آية: 60. [3] سورة القصص آية: 50. [4] لما روى البخاري وغيره: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار". [5] لشدة حفظه واستغنائه به عن الكتابة.