التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا.
قال: "وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ".
قال ابن عباس رضي الله عنه: "من كان يريد الحياة الدنيا" أي ثوابها. وزينتها: أي مالها. نوف أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد. "وهم فيها لا يبخسون" لا ينقصون، ثم نسختها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [1] الآيتين. رواه النحاس في ناسخه.
قوله: "ثم نسختها" أي قيدتها. فلم تبق الآية على إطلاقها[2]. وقال قتادة: " من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة " ذكره ابن جرير بسنده، ثم ساق حديث أبي هريرة [3] عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد ابن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه "أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله [1] سورة الإسراء آية: 18. [2] من العجيب جدا دعوى النسخ (*) . فإن الآيتين في معنى واحد. وتفسير النسخ بتقييد مطلقها -يعني بالمشيئة- كذلك غير واضح, والظاهر أنها لا تثبت رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (*) قوله: (من العجيب جدا دعوى النسخ) إلخ. أقول: ليس في ذلك ما يتعجب منه؛ لأن معنى النسخ عند السلف أوسع من معناه عند الفقهاء؛ لأن السلف يطلقون النسخ على تقييد المطلق وتخصيص العام؛ لكونهما غيرا المعنى المفهوم من النص المطلق والنص العام, ومعلوم أن آية هود مطلقة ظاهرها أن مريد الدنيا بأعماله يعطى مراده, وآية الأسرى بينت أنه لا يعطى من ذلك إلا ما شاء الله، وإن ذلك أيضا لا يحصل إلا لمن أراده الله, فاتضح من ذلك أن طالب الدنيا بأعماله قد يعطى مراده إذا شاء الله ذلك, وقد يعمل ولا يحصل له ما أراد؛ لأن الله سبحانه لم يشأ ذلك, وهذا واضح جدا, والله أعلم. [3] صحيح. أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (2382) : باب ما جاء في الرياء والسمعة. وقال: حديث حسن غريب. وابن حبان (2502- موارد) ، والحاكم (1/ 418 , 419) ، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 13: 15) . وصحيح الجامع (1709) .