لمحة تاريخية في سبب تأليف العقائد وتدوينها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي بمصر رحمه الله: [هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين] .
فهذا الدرس هو قراءة في كتاب الطحاوية عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى.
ولا شك أيها الإخوان أن ما يتعلق بالاعتقاد من الدروس والمؤلفات والبحوث هو من أولى ما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به لاسيما مع كثرة الضلال في هذا الباب، واشتباه الحق بالباطل على كثير من الناس، وليس هذا خاصاً بالمبتدئين من طلاب العلم، ولا حتى المتوسطين بل هو عام وقع فيه كثير من المحققين من أهل العلم.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمسائل الاعتقاد، وأن يحرر فيها القول، وأن يبني عقده وما يدين الله به على أرض عزاز على أرض صلبة على حجة وبرهان من الكتاب والسنة، وهذا لا يتأتى إلا بالنظر فيما ذكره الله جل وعلا في كتابه من العقائد، وفيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سنته، وفيما كان عليه سلف الأمة القرون المفضلة فإنهم خير القرون لاسيما ما كان عليه الصحابة، فإنهم أفضل الناس وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للمؤمن أن يتحرى ما كانوا عليه، فإنهم على الحق والهدى، تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاعتقاد والعمل، فعملوا بما اعتقدوا، وكانوا على معين صافٍ، وعلى حجة بينة، وعلى هدى وبرهان، لم يختلط بما اختلط به حال من بعدهم من العقائد المختلفة، والأقوال المبتدعة، والآراء الناشئة عن عقائد وأقوال فاسدة، فينبغي لطالب العلم أن يحرر هذا القصد.
ومن رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة أن جعل كتابها محفوظاً، وقيض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من يميز الحق فيها من الباطل، ومن يميز الصحيح من غير الصحيح، وأيضاً يسر الله جل وعلا من يدون عقائد السلف ويبين أقوالهم وما كانوا عليه، ويبين ضلال الضالين ويرد على المنحرفين.
ولذلك كانت كتب الردود في العقائد من أوائل ما ألف في الاعتقاد؛ لأن الناس كانوا على صراط الله المستقيم، وعلى هدى وحجة وبرهان، لم يلتبس عليهم الحق، ولم يختلط عندهم الأمر، بل كانوا على محجة واضحة بيضاء نقية، ثم حصل الزيغ والانحراف، واحتاج أهل العلم أن يردوا على المنحرفين، فرد من رد في القرن الأول في الصدر الأول من التابعين، بل رد الصحابة رضي الله عنهم على ما ظهر من البدع في أوقاتهم، كما جرى من ابن عمر مع القدرية وابن عباس مع الخوارج وغيرهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا سار على هذا المنوال وهذا الطريق الأئمة المهديون من بعدهم الذين تلقوا عنهم وساروا على طريقهم، فردوا البدع، ولم يكونوا بحاجة إلى أن يؤلفوا عقائد؛ لأن الناس يستقون عقائدهم من الكتاب والسنة، ويتلقون من قال الله وقال الرسول، ليس عندهم في ذلك شك ولا ريب.
فلما حدثت البدع وتنوعت الطرق وتكاثرت الأقوال الفاسدة احتاج العلماء إلى أن يؤلفوا عقائد يميزون فيها صراط أهل السنة والجماعة، وطريق الفرقة الناجية المنصورة عن غيرها من الطرق، فكان من أوائل المؤلفات ما ألفه حماد بن أبي سليمان في الفقه الأكبر، وكذلك ما كتبه أبو حنيفة رحمه الله في كتابه الفقه الأكبر، وهي ورقات معدودة زيد فيها ما ليس منها.
ثم بعد ذلك نقلت العقيدة عن الإمام أحمد من رواية بعض أصحابه، ونقل الاعتقاد المشهور عن الإمام الشافعي عن بعض أصحابه.
وهكذا كانت العقائد تنقل عن الأئمة وتدون، ثم جاء بعد ذلك من العلماء من ألف وكتب في عقائد السلف، في مطولات ومختصرات، ومن أوائل من ألف في المختصرات أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة التي بين أيدينا، وسندرسها إن شاء الله تعالى، وهي عقيدة مشهورة ذائعة الصيت، تكلم عنها العلماء المتقدمون واعتمدوها، ونقلوا عنها، حتى إنهم ينقلون منها فصولاً ومقاطع طويلة في الاستدلال لعقيدة السلف.
وممن فعل ذلك الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ذكر عقيدة الطحاوي ونقل منها، وكذلك ابن القيم رحمه الله وغيرهما من أهل العلم، فالعقائد كانت مؤلفة منذ وقت طويل، وعرفتم سبب ذلك وهو: أن الناس حصل عندهم اشتباه وحدثت الأقوال المنحرفة والآراء المبتدعة في دين الله عز وجل؛ فاحتاجوا إلى أن يميزوا الحق عن الباطل وأن يبينوا صراط أهل السنة والجماعة عن غيره.
وهذا لا يعني أن ما تضمنته هذه العقائد قد حوى جميع عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا يعني أيضاً أن هذه العقائد اقتصرت فقط على ذكر ما يتعلق بالعقيدة دون غيره من المسائل، بل فيها من مسائل الفقه ما هو معروف مشهور سيمر علينا بعضه في هذه الرسالة.
ومنها ما اقتصر على أبواب من أبواب الاعتقاد، وعلى جوانب من العقيدة ركز عليها للحاجة -فيما يظهر للكاتب المؤلف- إلى البيان والتوضيح في هذه الأبواب وهذه الجوانب.