رأيي في الحضارة الغربية
عَلِم الله ما فتن المغرورين من شبابنا إلا ما أخذهم من هذه الحضارة، فإن
لها في زينتها ورونقها أخذة كالسحر، فلا يميزون بين خيرها وشرها، ولا
يفرقون بين مبادئها وعواقبها، ثم لا يفتنون منها إلا بما يدعوهم إلى ما يميت
ويصدهم عما يحيي وما يحول بينهم وبين قلوبهم، فليس إلا المتابعة والتقليد.
وسأوجز هذا الرأي ما استطعت، وسأجعل كلامي فيه أشبه بلغة النظر: تأتي
اللمحة القصيرة على ما تطول العبارة فيه وتمتد.
إن هذه الحضارة لا تظهر أبداً على حقيقتها، إذ كانت حقيقتها لم تجتمع
بعد، وقد أنشأها جيل قريب منا وورَّثها من بعده وترك معها أخلاقه وطباعه، فما برح الناس يشبهون الناس، وإنما صبغت الحياة ولونت ودخلها التمويه
والزخرف والخطب في هذا يسير، إذ كان الأصل الإنساني لا يزال باقياً، وأكثره لا يزال سليماً، وبعض الرؤوس التي اخترعت ما غير الدنيا لا تزال بعدُ في الدنيا.
ولكن الشأن حين تتناسخ الأجيال خَلقاً بعد خَلق ويظفر على هذه
الأرض الإنسان الميكانيكي الوارثُ أخلاقه وطباعه من الآلات أكثر مما يرثها
من النفوس، فيومئذ لا يكون القول في الحضارة موضعَ حسبان وظن كما هو
الآن.
وعلى أن الدنيا لا تزال بخير، وعلى أن الحضارة الغربية لم تَعد من
الإنسانية موقع الألوان والتحاسين؛ فقد غمر شرها وكثر أذاها وأخذ أهلها
يتدافعونها ويتذممون منها وألزموها الإثم وألحقوا بها الفساد وأبكى عقلاءهم
وحكماءهم ما جلبت عليهم من الأخانيث والمضاحيك والمهازل والمفاسد
وكبائر الإثم والفواحش، ولم يقم خيرها بشرها ولا غطت مصالحها على
مفاسدها.
يحمل الإنسان في نفسه نقيضين، هما عقله وهواه، أو دافعه ووازعه.
فإذا أطلقهما معاً أفسداه، وإذا قيدهما معاً أفسداه كذلك، ولكن تمام الإنسان
ونظامه أن يطلق العقل. - ويحد الهوى؛ فيصفي بعضه في بعض فإذا هو قد خلص