يتجدد التركيب الإنساني والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء.
فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن
ببعض الزيادة أو بعض الزينة أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة، فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جديداً، وما هو من الهوان على الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول ساكون فيكون؛ ولو أن كل أسود في مطعم أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض ولم يبق للشجاعة تاريخ يُحفظ، ولو أن كل لون أحمر يقول أنا الورد لما بقي للورد معنى إلا أن يكون خجلاً في وحه الدنيا. . .
المجدد أيها الفضلاء جديداً لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى
اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضاً، فإن من انتهى إلى غاية من
الغايات كان هو الحريُّ أن يستشرف لما بعدها وأن يأتي بما لا يستطيع مَن
دونه، ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية، وما يبلغها إلا إذا كان مهيأ بوسائلها، ولن تأتي له هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئاً في أسأليب الحياة والنظام القديم.
فالذي يحصل من كل ما تقدم أن لا جديد إلا حيث تُباع الحكمة شيئاً ثم
تتصل نواميس الحياة النفسية بهذا الشيء فإذا هي تفعل به ما اقتضته الحكمة مما نسميه هدماً أو بناء، فأنت إذا كنت مجدداً في اللغة مثلاً وكانت فيك العناصر الكافية لاجتماع قوة من قوى الناموس العام فلا بد أن تباع شيئاً غير موجود لا يستطيعه غيرك كما تستطيعه أنت، فإذا أبدعت واستحدثت رأيت القديم نفسه هو الدليل على أنك جددتَ فكنت بشهادته مجدداً؛ وهي شهادة كما ترى لا تنالها بأنك "محرر" صحيفة أو مترجم مجلة أو ملخص من بعض آراء الفلاسفة، بل من حياة عصرك وطبيعته وقوانين وجوده، إذ تكون أنت زيادة في العصر وآية في الطبيعة وكلمة جديدة في قوانين الأمة.
(1) ذلك أصل جديد في زمننا، فهو راجع إلى العامية والإلحاد والتهور والفساد الأوروبي وما جرى هذا المجرى، ويقابله من معنى القديم، العربية والإسلام والفضائل الرقية وما اتصل بها.
أما الجديد فيما عرف من تاريخ الأدب العربي فكان أن الرواة لم يكونوا يحملون الشعر إلا للمثل والشاهد، فلا حجة لهم من كلام المحدثين ولا رواية الا من الشعر القديم وحده إلى آخر المائة الأولى، وبهذا انصرفوا عن بثار وأبي نواس وطبقتهما وتجنبوهم في الرواية.