وبالجملة فالميت قد انقطع عمله فهو محتاج إلى من يدعو له، ولهذا شرع الصلاة عليه من الدعاء ما لم يشرع مثله للحي، ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له والدعاء له. وكان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول: "سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" فبدل أهل البدع والشرك قولا غير الذي قيل لهم: فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا إلى الميت إلى الزيارة بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في المساجد. وذكر ابن إسحاق عن أبي العالية قال: لما فتحنا (تستر) وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فحملنا المصحف إلى عمر فدعا كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن، فيه سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل، قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس أن لا ينبشوه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: دانيال. قلت: منذ كم مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف وعبدوه، فهم قد اتخذوا من قبور من لا يدانيه أوثانا وجعلوا لها سدنة. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، فقطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها. ولما رأى عمر الناس يذهبون فسأل عن ذلك فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يصلون فيه. فقال: إنما كان أهلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته منكم الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها. وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة لما سألوه شجرة يعلقون عليها