((الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولا أو حكم بحكم أو أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها ومدارك نشاركه فيها، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شفاها أو من صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به، فلم يرو كل منهم كل ما سمع، وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه؟ ! فلم يرو عن صديق الأمة مائة حديث، وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من مشاهده، بل صحبه من حين بعث، بل قبل البعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته. وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه، ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة؛ فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين، وقد روى عنه الكثير، فقول القائل: ((لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره)) . قول من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص، ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ولا يصرحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه.