سبحان خالق نفسي كيف لذّتها ... فما النّفوس تراه غاية الألم؟؟؟!
يعني: أن لذة نفسي في الحروب، وورود المهالك، وذلك عند الناس غاية الألم، فسبحان الله الذي خلق نفسي على هذه الصفة.
الدّهر يعجب من حملي نوائبه ... وصبر نفسي على أحداثه الحطم
الحطم بالضم جمع حطوم.
يقول: إن الدهر مع غلبته لكل أحد يعجب من احتمالي شدائده، ومن صبري على أحداثه الكاسرة.
وقتٌ يضيع، وعمرٌ ليت مدّته ... في غير أمّته من سالف الأمم
يقول: إن وقتي ضائع فيما بين أهل هذا القرن الذي أنا فيهم وعمري يذهب هدرا فيما بينهم، فليتني كنت قبل هذا الوقت بين الأمم السالفة.
أتى الزّمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم
يقول: من تقدم من سالف الأمم أدركوا الزمان في أول أمره فنالوا خيره، وأتيناه نحن في آخره فلم نجد إلا التعب والعناء. كولد الرجل إذا جاءوا في أول شبيبته انتفعوا بأبيهم، وكسب لهم الأموال وسرهم وأحسن إليهم، وإذا جاءوا له بعد الكبر والعجز والفقر، لم ينل ولده منه إلا الغم والحزن، وربما يموت الوالد فيبقى الوالد يتيما. وهذا كقول الآخر:
ونحن في غفلةٍ إذ دهرنا جزعٌ ... فاليوم أمسى وقد أودى به الخرف
كان قوم من أهل العراق قتلوا يزيداً الضبي ونكحوا امرأته، ونشأ له منها ولد يسمى: ضبة يغدر بكل أحد نزل به، أو أكل معه، أو شرب، ويشتمه واجتاز أبو الطيب بالطف فنزل بأصدقاء له، وسارت خيلهم إلى هذا العبد واستركبوه، فلزمه المسير معهم. فدخل هذا العبد الحصن وامتنع به، وأقاموا عليه، فلبس سلاحه لهم، وأخذ يشتمهم من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمى أبا الطيب بشتمه، وأراد القوم أن يجيبه بمثل ألفظاه القبيحة وسألوه ذلك، فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضاً لم يفهم ولم يعمل فيه عمل التصريح، فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو.
فقال في جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة.
قال ابن جني ورأيته وقد قرئت عليه هذه القصيدة وهو ينكر إنشادها، وكان مثل أبي الطيب معه في هذه القصيدة كما روى عن ابن مهرويه عن ابن خلاد عن أبيه قال: قلت لبشار: يا أبا معاذ إنك لتأتي بالأمر المتفاوق فمرةً تثير بشعرك العجاج فتقول:
إذا ما ضربنا ضربة مضريّةً ... هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ ... ذرى منبرٍ صلّى علينا ورسلّما
ثم تقول:
ربابة ربّة البيت ... تصبّ الخلّ في الزّيت
لها سبع دجاجاتٍ ... وديكٌ حسن الصّوت
فقال: إنما أكلم كل إنسان على قدر معرفته، فأنت وعلية الناس يستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جاريتي تربي دجاجات وتجمع لي بيضهن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض وأطعمتنيه، وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كله، فإذا أنشدتها في النمط الأول لما فهمته ولا انتفعت بها.
فهذه صورة المتنبي في هذه القصيدة كما ترى:
ما أنصف القوم ضبّه ... وأمّه الطّرطبّه
رموا برأس أبيه ... وناكوا الأمّ غلبّه
الطرطبة: الطويلة الثديين، وإنما تطول ثدياها إذا صارت عجوزاً. وقد روى: باكوا بالباء وأصله مواقعة الحمار. والغلبه: الغلبة.
يقول: إن القوم لم ينصفوا ضبة ولا أمه العجوز، حيث قتلوا أباه وأتوا أمه إتيان الحمار.
فلا بمن مات فخرٌ ... ولا بمن نيك رغبه
يقول: ليس لهم بأبيه الذي قتلوه فخر، لأنه ساقط وضيع، ولا بأمه التي نيكت رغبة؛ لأنها عجوز لا يرغب أحد فيها.
وإنّما قلت ما قل ... ت رحمةً لا محبّه
وحيلةً لك حتّى ... عذرت لو كنت تنبه
تنبه: تشعر، وكسر التاء في مثلها على لغة بني تميم.
يقول: إنما قلت: ناكوا أمك غلبة وقهرا رحمة لك، حيث قتلوا أباك ونحكوا أمك. وقلت أيضا: حيلة لك، ليعذرك الناس على ما جرى، وأنه كان قهرا وغلبة، لا عن رضا منها بالفجور، ولو كنت تفطن لمرادي، ولكنك من جهلك لا تعلم ما أردت. وروى: غدرت: أي قلت هذا القول حيلة لك في الانصاف، حتى تغدر بي لو كنت تبالي بالغدر..
وما علكي من ألقت ... ل إنّما هي ضربه
وما عليك من الغد ... ر إنّما هي سبّه
وما عليك من العا ... ر أنّ أمّك قحبه
وما يشقّ على الكل ... ب أن يكون ابن كلبه