وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل، ولم يجد مع فليتة خبراً عن العرب التي طلبها فقال له: احرف بنا على بركة الله تعالى إلى دومة الجندل.
وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمي قد علمت أنه يريد البياض، فسار حتى ورد البويرة بعد ثلاث ليال، وأدركتهم لصوص فأخذت آثارهم وهم عليها، فلم يطمعوا فيهم، وسار معه منهم حمصي بن القلاب، فلما توسط البسيطة رأى بعض العبيد ثوراً يلوح فقال: هذه منارة الجامع. ونظر آخر نعامة في جانبه فقال: وهذه نخلة. فضحك أبو الطيب وضحكت البادية فقال يذكر ضلال غلمانه في حذر الأشباح التي لاحت لهم في البادية:
بسيطة مهلاً سقيت القطارا ... تركت عيون عبيدي حيارى
بسيطة: أرض بقرب الكوفة.
يقول: سقاك المطر يا بسيطة مهلاً، فإنك حيرت عيون عبيدي. فدعا لها بالسقيا. ولم يدع عليها لكي تكف عن التحير، فلو دعا عليها لزادت في التحيير، فتلطف لها بالدعاء بالسقيا.
فظنّوا النّعام عليك النّخيل ... وظنّوا الصّوار عليك المنارا
الصوار القطيع من البقر الوحشي.
يقول: حيرت عيونهم حتى ظنوا أن النعام نخيل، وأن الثور منار الجامع.
فأمسك صحبي بأكوارهم ... وقد قصد الضّحك فيهم وجارا
يقول: لما سمع صحابي ذلك ضحكوا حتى خافوا أن يسقطوا عن إبلهم، فتعلقوا برحالهم، وفيهم من ضحك ضحكاً معتدلاً، وفيهم من جاوز الحد في الضحك. وروى: قسط أي عدل الضحك في بعضهم وجار في بعضهم: وروى قصد وهو في معناه.
وورد العقدة بعد ليال، وسقي بالجراوي، واجتاز ببني جعفر بن كلاب وهو بالبرية والأضارع فبات فيهم، وسار إلى أعكش حتى نزل الرهيمة. ودخل الكوفة فقال يصف منازل طريقه ويفخر بمسيره في البادية ويهجو كافوراً في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة:
ألا كلّ ماشية الخيزلي ... فدى كلّ ماشية الهيدبي
الخيزلي والخوزلي: مشية النساء، وهي مشية فيها تثنى وتفكك، والهيدبي: مشية الإبل فيها سرعة.
يقول: جعل الله كل امرأة تتثنى في مشيتها فداءً لكل ناقة تسرع في سيرها.
والخيزلي والهيدبي نصب على صفة المصدر المحذوف: أي كل ماشية تمشي مشية الخيزلي والهيدبي.
وكلّ نجاةٍ بجاويّةٍ ... خنوفٍ وما بي حسن المشي
النجاة: السريعة. والبجاوية: منسوبة إلى بجاوة، وهي قبيلة من البربر، يطاردون عليها في الحرب، والخنوف: التي تميل يدها في سيرها.
يقول: جعل الله كل امرأة تمشي الخيزلي، فدى كل ناقة سريعة. ثم بين أنه لم يفدهن بالإبل لأن مشية الإبل أحسن من مشية النساء، ولكن لأجل النفع والبعد من الضيم. والمشي: جمع مشية.
ولكنّهنّ حبال الحياة ... وكيد العداة وميط الأذى
يقول: إنما فديتهن بها؛ لأن الإبل حبال الحياة: أي أسباب الحياة، ينجو بها الإنسان من المهالك، وبها يكيد الإنسان عدوه، ويدفع الأذى بها عن نفسه.
ضربت بها التّيه ضرب القما ... ر إمّا لهذا وإمّا لذا
التيه: برية على جانب مصر، وهي التي تاه فيها قوم موسى عليه السلام يقول: ضربه بها إما للنجاة، وإما للهلاك، كما يفعل المقامر.
إذا فزعت قدّمتها الجياد ... وبيض السّيوف وسمر القنا
فمرّت بنخلٍ وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
نخل: ماء معروف. وركبها: يعني نفسه وغلمانه. أي مرت هذه الإبل على هذا الماء، وأصحابها يغنون عن هذا الماء، لما لهم من العدة، وعن العالمين، لقوتهم وشجاعتهم.
وأمست تخيّرنا بالنّقا ... ب وادي المياه ووادي القرى
النقاب: موضع، يفترق منه طريقان: إلى وادي المياه، وإلى وادي القرى.
يقول: لما وصلنا إلى هذا المكان خيرتنا الإبل فقالت: خذ أي الطريقين شئت. وروى بالباء: أي خبرتنا. وقالت: هذا طريق وادي المياه، وهذا طريق وادي القرى.
وقلنا لها: أين أرض العراق؟ ... فقالت ونحن بتربان: ها
تربان: موضع وها حرف إشارة. والمراد: ها هي هذه، فحذف الجملة وترك الحرف الذي هو ها.
يقول: لما وصلنا إلى تربان سألناها عن أرض العراق فقالت عندما كنا بتربان: ها هي هذه بين أيديكم. يعني العراق. فعلى هذا يكون الواو للحال.
وقيل: معناه أنها قالت: نحن قد حصلنا بتربان، وهي قريبة من العراق فيكون ذلك من قول الإبل.