كان أبونا لا يرفع المواعظ عن أسماعنا، أراد مرّة سفرا فقال: يا بنيّ تألّفوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد فيها بالشكر عليها، واعلموا أنّ النفوس أقبل شيء لما أعطيت وأعطى شيء لما سئلت، فاحملوها على مطيّة لا تبطىء إذا ركبت، ولا تسبق وإن تقدّمت، عليها نجا من هرب من النار، وأدرك من سابق إلى الجنة؛ فقال الأصاغر: يا أبانا، ما هذه المطيّة؟ قال:
التوبة. صفات الزّهّاد
حدّثني عبد الرحمن العبديّ عن يحيى بن سعد السعديّ قال:
سأل الحواريّون عيسى عليه السلام فقالوا: يا روح الله، من أولياء الله؟
قال: هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنا، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفيعها بغير الحقّ وضعوه، فهم أعداء ما سالم الناس وسلم ما عادوا، خلقت «1» الدنيا عندهم فليسوا يعمرونها، وماتت في قلوبهم فليسوا يحبونها، يهدمونها ويبنونها بها آخرتهم، ويبيعونها ويشترون بها ما يبقى لهم؛ ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت منهم المثلات «2» فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، بهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم علم الكتب وبه عملوا، لا يرون نائلا مع ما نالوا ولا أمنا دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون.