وروي عن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، كانت له جارية تسعى في حوائجه مليحة، وكان له مؤذّن شيخ كلّما رأى الجارية قال: إنِّي أحبّك، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين، فقال لها: إذا قال لك أنا أحبّك فقولي له: وأنا أيضاً أُحبّك، فماذا؟ فقالت له ذلك، فقال: أصبر وتصبرين حتَّى يحكم الله وهو خير الحاكمين. فذكرت ذلك لأمير المؤمنين فدعا بالمؤذّن، فأعتق الجارية وزوّجها منه وقال: قد حكم الله وهو خير الحاكمين.
وروي أن محمد بن هارون الأمين كلن يوسف زمانه جمالاً وكان الكسائيّ يؤدّبه وإخوته. فرجع محمد إلى الرَّشيد ذات ليلة فقال له: إنَّ الكسائيّ يحدّد النَّظر إليّ من بين إخوتي، فقال الرشيد: إنَّ الكسائيّ عفيف، ولكن بكّر إليه قبل الصّبيان فقل له وهو وحده: إنَّك لتحدّد النّظر إليَّ، فإن كانت لك إليَّ حاجة فاعرضها عليّ فإنَّها مقضيّة، ثمَّ خبّرني بما يردّ إليك. فبكّر إليه محمد، فلمَّا خلا به قال له ذلك، فقال الكسائيّ: يا بنيّ، أما علمت أنَّ النَّظر إلى الوجه الحسن يورث الغير نوراً والقلب سروراً؟ فأمَّا الحاجة إليك فلا والحمد لله، لا تعد لمثل هذا الحديث. فرجع إلى الرَّشيد فأخبره، فقال: لم تخطئ فراستي في الكسائيّ، وزاده بعد ذلك إكراماً.
وحدَّثني الحسن بن محمد الوليدي الفقيه عن مشايخه أنَّ أبا يوسف القاضي كان عند الرشيد ذات يوم وبين يدي الرشيد غلام مختطّ حسن الوجه من أبناء عمّه قائم علَى رسم الخدمة، وكان الرشيد يحدّث أبا يوسف وأبو يوسف يحدّد النَّظر إلى الغلام، فقال له الرشيد: هو ذا أحدّثك وأنت مقبل ببصرك علَى هذا القائم، فقال أبو يوسف: نعم يا أمير المؤمنين، حدَّثني ابن أبي ذئب عن الزهري عن أنس عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: " ثلاثة تجلو البصر: الاكتحال بالإثمد، والنَّظر إلى الماء الجاري، والنَّظر إلى الوجه الحسن "، وأنا شيخ ضعيف البصر أحببت أن أجلو بصري، فتبسَّم الرشيد وأومأ بيده فقامت جارية من وراء الخدر ونقرت العود نقراً أعجب السَّامعين جودة فصبر أبو يوسف حتَّى فرغت، ثمَّ قال: أحسنت، فقال الرشيد: لم تقتصر علَى حسن السماع حتَّى قلت أحسنتِ، فقال: إنَّما قلتُ أحسنتِ حين أمسكت، فقال الرشيد: لله درّكم يا أصحاب أبي حنيفة، من ذا يقاومكم.
راود عبد الملك بن مروان نصيباً علَى الشرب، فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّما قرَّبني منك عقلي فهبه لي.
ويقال: اتَّقوا عشق العفيف، وضربة الجبان، ومنطق السَّاكوت، أيّ هذه الأشياء إذا وقعت كانت بليغة.
ويقال: الحبّ ثلاثة أنواع: نوع حجازيّ، وصاحبه يقتصر علَى الوقوف بالأطلال وسؤال الرسوم والنظر من بعيد، كما قال بعض أصحابه:
ليسَ في العاشقينَ أقنَعُ منِّي ... أنا أرضَى بنظرةٍ من بعيدِ
وقال الآخر:
أقلِّبُ طرفِي في النُّجومِ لعلَّهُ ... يُوافقُ طرفِي طرفَهَا حينَ أنظُرُ
وقال آخر:
أليسَ اللَّيلُ يجمعُنَا جميعاً ... أليسَ شرابُنَا من ماءِ وادِي
وحبّ عراقي: وصاحبه يتعاطى التَّقبيل والملامسة ولا يتعدَّاهما إلى غيرهما، ويقول أحد أصحابه:
ما الحُبُّ إلاَّ قُبَلٌ ... وغمزُ كفٍّ وعَضُدْ
فلا تَعَاطَ غيرَهَا ... مَن نكَحَ الحُبّ فسَدْ
تمَّ باب النسيب.
باب
الهجاء
قال النجاشي الحارثي:
إذا سقَى اللهُ أرضاً صوبَ غاديةٍ ... فلا سَقَى اللهُ أهل الكوفة المطَرَا
السَّارقينَ إذا ما جنَّ ليلهمُ ... والدَّارسينَ إذا ما أصبحوا السُّوَرَا
والتَّاركينَ علَى طُهْرٍ نساءهمُ ... والنَّاكحينَ بشطَّيْ دجلةَ البقَرَا
وقال آخر:
نهَى التَّيْميُّ عُتبةُ والمعلَّى ... وقالا سوفَ يبهرُكَ الصُّعودُ
أتطمعُ أنْ تنالَ منالَ قومٍ ... هُمُ سَبَقوا أباكَ وهمْ قُعودُ
ويُقضَى الأمرُ حينَ تَغيبُ تيْمٌ ... ولا يُستَأذَنون وهم شُهُودُ
وإنَّكَ لو رأيتَ عبيدَ تيْمٍ ... وتَيْماً قلتَ أيُّهمُ العبيدُ
وقال دعبل بن علي بن رزين الخزاعيّ:
أبا جعفرٍ وأصولُ الفَتَى ... تدلُّ عليه بأغصانِه
أفي الحقِّ أنَّ صديقاً أتاكَ ... لتكفِيَهُ بعضَ أشجانِه
فتأمرُ أنتَ بإعطائِهِ ... ويأمُرُ سعدٌ بحرمانِه