ثم قتيبة بن مسلم، وهو يمتاز بمعرفة أحوال الشعراء وأخبارهم، والبصر بأشعارهم ومذاهبهم فيها؛ والنضر بن شميل الحميري، وخالد بن سلمة المخزومي، وكانا أعلم أهل زمانهما بأنساب العرب ومغامزها، وهما اللذان وضعا كتاب "المثالب" كما مر في موضعه، والزهري عالم الشام والحجاز، وقد تقدم الكلام عليه, ومن هذه الطبقة عبد الرحمن بن هرمر بن الأعرج المتوفى سنة 117هـ، وهو أحد من ينسب إليه وضع العربية، وقد امتاز من سائر طبقته بعلم أنساب قريش وأصولهم، والتغلغل في ذلك إلى أعماق بعيدة[1]؛ وروي أن مالكًا بن أنس رضي الله عنه كان يختلف إليه في هذا العلم، وكان يرى أنه علم لم ينته للناس.
وأما الطبقة الثالثة فهي التي كانت في القرن الثاني؛ وهي مصدر الرواية العامة في الإسلام؛ لأن شروط الرواية تعرف إلا في عهدها؛ وتمتاز هذه الطبقة بغلبة الأخبار عليها، وبكثرة الوضع على العرب في المناقب والمثالب، وبانتحال بعضهم مذاهب من الفتنة من الدين؛ وقل منهم من لم يكن أكبر علمه الأخبار؛ ولهذا نذكرهم فيما يلي، ولم يعد لعلم الأنساب من بعدهم الشأن الذي كان له، وإنما صار يروى على أنه بعض علوم العرب. [1] أبعد رواة الإسلام في كل ما يتعلق بأنساب قريش وفضائلها، لمكان النبي صلى الله عليه وسلم منها. حتى نقل القاضي عياض في "الشفاء" أن ابن الكلبي كتب للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم: فكأن ابن الكلبي ينفذ في تاريخ الجاهلية إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف سنة ... وإنما زعم الرجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ليس في آبائي من لدن آدم سفاح".
الخبر والأخباريون:
وصار الخبر بعد الإسلام في طائفتين من الرواة: الأولى تروي أخبار العرب وتغلب عليها، والثانية تغلب عليها أخبار الفتوح الإسلامية وأحوال الدولة. ومن رءوس الطائفة الأولى محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير المتوفى سنة 146هـ، وكان أعلم القوم بالنسب، وهو كوفي أجمعوا على تركه واتهموه بالكذب والرفض وزيفوا كلامه عن أصل العرب والعربية وما جرى هذا المجرى؛ لكثرة ما يضع منه كذبا وزورًا، وعنه أخذ ابنه هشام بن الكلبي النسابة صاحب "الجمهرة" والكتب الكثيرة في أخبار العرب وأحوالها ومناقبها أخبار الأوائل والأمم البائدة والأحاديث والأسمار ونحوها، وتوفي سنة 204هـ، هو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع "المعلقات" وتعليقها على الكعبة -كما سيأتي في بابه- وقد اتهمه العلماء كما اتهموا أباه بالرفض وتركوا حديثه لذلك ولما ظهر من كذبه؛ وشبيل بن عرعرة الضبعي[1]، وكان راوية ناسبًا شاعرًا عالمًا بالغريب، قالوا: وكان سبعين سنة رافضيا، ثم صار بعد ذلك خارجيا؛ ومجالد بن سعيد بن عمير؛ وهو يروي عن الشعبي؛ وقد توفي سنة 144هـ؛ والشرق بن القطامي، وهو من رواة الغريب واللغة والشعر، وكان يكذب للرجل في الكلمة ثم يحدث بها الناس في المسجد على أنها من علمه الذي يرويه؛ وعبد الله بن عياش الهمداني، وراويته الهيثم بن عدي، وكل أفراد هذه الطبقة يتقاربون، إلا ما كان من هشام بن الكلبي، فإنه [1] وفي "المعارف" لابن قتيبة أنه ابن عروة، وذلك تحريف من النساخ، وشبيل هذا معدود من الفصحاء عند الرواة؛ ومن النسابين الرواة عند الناس؛ ومن الخطباء العلماء عند الخوارج.