أهلها في التاريخ بالنزوع إلى الشقاق والعصيان وبالعصبية العربية؛ ولذا كانت الكوفة مثلًا مضروبا في فقه أهلها، كما ضربوا البصرة مثلًا في الأدب، وكما ضربوا المثل بالمدينة في القراءة، وبمكة في المناسك[1]؛ وبظاهر الكوفة كانت منازل النعمان بن المنذر، والحيرة والخورنق، والسدير، وما هناك من القصور والمتنزهات، وكل ذلك غير طبيعي في تاريخ الفصاحة العربية.
ولما مصرت بغداد وجعلها المنصور ثاني الخلفاء العباسيين مدينة -وكان قد اختطها قبله أخوه أبو العباس السفاح وشرع في عمارتها سنة 145هـ ونزلها سنة 149هـ، وكانت قرب الكوفة- وهي ما هي، حاضرة الدنيا ومدينة الإسلام ومظهر أبهة الخلافة وجلال الملك, كان علماء الكوفة أسرع الناس إليها، فأكرم العباسيون لقاءهم، وبسطوا لهم بالعطاء، غير أن ذلك لم يزدهم إلا ضعفًا وشذوذًا، حتى عيرهم البصريون بأنهم يأخذون عن باعة الكواميخ كما تقدم في موضعه.
أما بغداد نفسها فلم يعتد البصريون بأحد من علمائها، ولا يرونها مدينة علم، وإنما هي عندهم مدينة ملك، وما فيها من العلم فمنقول إليها ومجلوب للخلفاء وأتباعهم؛ قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن ادعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة[2]. [1] لم يعرف بمكة ولا بالمدينة أحد من أئمة العربية أو من يتصدر للرواية، وكل ما قاله أبو الطيب اللغوي في علمائها: أنه كان بالمدينة على الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا، وأما مكة فكان بها رجل من الموالي يقال له ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو ووضع كتابا لا يساوي شيئًا؛ ولم يجد الأصمعي بالمدينة من الرواة إلا ابن دأب الذي ذكرناه في الوضاعين. [2] توفي أبو حاتم سنة 255هـ، وقال الأصمعي، وقد توفي نسة 215هـ: خرجت إلى بغداد وما فيها أحد يحسن شيئًا من العلم، لقد جاءني قوم يسألونني عن الجعطري فأخبرتهم أنه المكتل، قالوا: وما المكتل؟ قلت: هو المعضل! قالوا: وما المعضل؟ وكان بقربي بقال ضخم، فقلت: هو مثل ذلك البقال! فرووا عني.....