الأمم السالفة، وأكثره يأخذونه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعمن أسلم منهم، وبعض هؤلاء كان غزير العلم واسع الحيلة في قصص الأولين، كعبد الله بن سلام أسلم عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكعب الأحبار الذي أسلم في خلافة عمر وتوفي سنة 32هـ؛ وعن هذين الرجلين -ووهب بن منبه المتوفى سنة 114هـ- أخذوا سواد قصصهم مما يتعلق بأخبار الأمم وأحوال الأنبياء والنذر الأولى وما يجري مع ذلك؛ وكان وهب من الأبناء "أبناء الفرس" لأن جده جاء إلى اليمن فيمن بعثهم كسرى حين استنجدوه على الحبشة، وقد أخذ آباؤه عن اليمن أخبار اليهود، وأخذوا عن الحبشة أخبار النصارى، ثم كان وهب يعرف اليونانية أيضًا، فاتسع بذلك علمه، حتى قالوا في بعض ما نقلوه عنه: إنه قرأ من كتب الله اثنين وسبعين كتابًا، وهو أول من صنف قصص الأنبياء في الإسلام.
وممن أخذوا عنهم أيضًا، طاوس بن كيسان التابعي، وهو من الأبناء، وتوفي سنة 106هـ ثم ورث الرواية عنه ابنه عبد الله بن طاوس.
ولما كان القرن الثاني وانتهى عصر كبار القصاص من التابعين، ورأسهم الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ[1] -وكان رضي الله عنه مفننًا ثقة في كل ما يتعاطاه من العلوم- نشأت بعده الطبقة التي أخذت عنها العامة وقد اضطربت الفتن وكثر الكلام وفشت الأكاذيب في الحديث وفي أخبار العرب وفي الشعر، فصار هم القاص أن يجيء بالغرائب، ويكثر من الرقائق؛ لأن أهل العلم انصرفوا إلى حلقات الرواية، ولم يبق في حلقات القصاص إلا العامة وأشباههم؛ وقد علمت مذهبهم والشأن فيما ينفق عندهم؛ فمن ثم ساءت المقالة فيهم، وصار القاص عند أهل العلم أحمق ممخرقًا لا يعرفونه بغير ذلك، إلا قليلًا ممن استوعبوا وتبينوا وجروا في مذهب الرواة "وهو نقل الكذب الذي لا بأس به وإسناده إلى أهله". وامتازوا مع ذلك بالفصاحة والبيان. ويبدأ تاريخ هؤلاء بعد الحسن البصري؛ بموسى بن سيار الأسواري، قال الجاحظ: وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدرى بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار؛ ولم يكن في هذه الأمة بعد أبي موسى الأشعري أقرأ في محراب من موسى بن سيار، ثم عثمان بن سعيد بن أسعد، ثم يونس النحوي، مث المعلى. [1] كانت أم الحسن تقص للنساء أيضًا، ولعلها أول امرأة فعلت ذلك في الإسلام، ودخل عليها يومًا وفي يدها كراثة تأكلها؛ فقال لها: يا أماه، ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك! فقالت: يا بني، إنك شيخ قد كبرت وخرفت! قال: يا أماه أينا أكبر ... ؟
وكان الحسن أفصح الناس وأعلمهم وأزهدهم، ولما مات بالبصرة، تبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به بعد صلاة الجمعة فلم تقم صلاة العصر بالجامع. قال حميد: ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ لأنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر!