التزيد في الأخبار:
وهذا أوسع أبواب الوضع في الرواية؛ لأنك إذا اعتبرت اللغة والشعر وجدتهما في حكم العلوم الثابتة المدونة، بما حاطهما الرواة من التثبت والتفتيش كما مر؛ ولأن اللغة كانت لسانًا فطريا في قوم معروفين لقيهم أهل الرواية وشافهوهم بها، وكان الشعر إنما يطلب أكثره للفظه ولم يأخذوه عن المحدثين، فهو في حكم اللغة من هذه الجهة، وأما الأخبار التي تأتي عن العرب وغيرهم فإنما يريدون ببعضها التاريخ، وبأكثرها السمر والمنادمة والاستعانة على حشو علوم أخرى، كالنسب والتفسير والحديث وما إليها.
ولم يعن العلماء بالتثبت في شيء من الخبر إلا ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما يدخل في السنن، فقد محصوا كل ذلك وميزوا جيده، ونفوا رديئه وخلصوا إلى الحقيقة فيه بكل حجة، أما ما عداه فكان أمره بحسب القائمين عليه: منهم من تثبت واستبصر ورأى أنه يبرأ من العهدة ويتحرج من التبعة بإسناد كل خبر وبيان طريقه في الرواية، وهم مشاهير الرواة.
ومنهم من لم يبال معروف ذلك من مجهوله، وصحيحه من مدخوله. فكان يكذب ويصدقه الناس، ويأتي بالأخبار المتنافية المتناكرة، ويضع التهاويل والأباطيل والأضاليل، والناس مقبلون عليه، منصرفون بوجوه الرغبة إليه، وهؤلاء هم أكثر القصاص.
ومنهم قوم جعلوا الأخبار علمهم فتميزوا بها ودونوا فيها الكتب الكثيرة المفننة، فهم يكذبون مبالغة في الإغراق، ورغبة في الاجتلاب والحشد؛ لأن ذلك لا يطرد لهم إلا بالتزيد؛ وهؤلاء هم الذين كتبوا في تاريخ العرب وأخبارهم وأسمارهم ومناقبهم ومثالبهم وأيامهم في الجاهلية ونحو ذلك، وقد سموهم "الأخباريين"؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون من معنى "التاريخ والمؤرخ" إلا التوقيت -وسيأتي الكلام عن الأخباريين في فصل الرواة- ولم يتسعوا في ذلك الاتساع كله إلا في أطراف القرن الثاني، حين استفحل أمر الشعوبية فوضع القوم على العرب شيئًا كثيرًا من المناقب والأخبار، رد أكثره عليهم أهل الرواية من المحققين وكذبوهم فيه وأغفلوا روايته عنهم، ومن هذا الموضوع خبر المعلقات المشهورة كما سيمر بك في بابه.
والرواة إنما قلدوا العرب في صنعة الأخبار والتزيد فيها، كما قلدوهم في وضع الشعر؛ لأن العرب كانوا يكذبون بعضهم على بعض في المثالب، ويتزيدون في المناقب، وكانوا يتناقلون أخبارًا من تاريخ الأوائل والبائدة عمن خالطوهم من الأمم، على ما في أكثرها من الوهن والكذب، وهي لا تدور فيهم حتى يكون قد داخلها الكثير من مثل ذلك، وشبه الشيء منجذب إليه.
ولبعضهم نوع من التاريخ الوضعي يسميه الرواة "تكاذيب الأعراب" "وأضاحيك الأعراب" وهو هو الخرافات أو "الميثولوجيا" وللكلام عليه موضع.
ومن وراء ذلك أمر الهجائين والفحاشين ومن اشرأبوا للفتنة، ومردوا على النفاق وألفافهم،