الزمن؛ فلما راجعوا روايته بعد ذلك وقد أخذ منهم السيف والحيف وذهب كثير من الشعر وتاريخ الوقائع بذهاب رواته. صنعت القبائل الأشعار ونسبتها إلى غير أهلها، تتكثر بها وتعتاض مما فقدته؛ وكان في العرب قوم آخرون قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بذوي الكثرة من ذلك، وإنما العزة للكاثر؛ فقالوا على ألسن شعرائهم ما لم يقولوه وأخذه عنهم الرواة.
وأول القبائل التي وضعت الشعر في الإسلام، قريش، وكانت أقل العرب شعرًا وشعراء -لأسباب نذكرها في الكلام على الشعر- فإنها لما تعاضهت واستبت وكذب بعضها على بعض أول العهد بالإسلام حين كان منها المسلمون ومنها القاسطون ومنها دون ذلك، وضعوا على حسان بن ثابت أشعارًا كثيرة لا تليق به ولا تجوز عليه، وما نرى العرب إلا أخذت أخذها في ذلك من بعد.
ولما كانت الرواية العلمية في القرن الثاني وشمر الرواة في طلب الشعر للشاهد والمثل، استفاض الوضع في العرب وتفرغ قوم لذلك: كمحمد بن عبد الملك الفقعسي راوية بني أسد الذي وضع للرواة أشعارًا كثيرة أدخلها في روايته عن قومه. وإن أشد ما كان يعضل بالرواة يومئذ أن يقول الرجل من ولد الشعراء في العرب عن لسان أبيه تكثيرًا لشعره، فإن هذا كان مما يشكل عليهم؛ لأنهم لا يميزون أكثر الشعراء إلا بالنسبة، وهي محمل الصدق والكذب، أما الصنعة الشعرية فقلما تختلف في أشعار العرب اختلافًا يظهر لأولئك الرواة إلا في القليل من صنعة الفحول المتقدمين. وكان القوم إذا تعلقوا برجل من ولد الشعراء وألحوا عليه في السماع، ورغبوا في شعر أبيه دونه، فكثيرًا ما يفعل بهم مثل ذلك، ومن هؤلاء داود بن متمم بن نويرة الشاعر، قال أبو عبيدة: إنه قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، قال: فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته؛ فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله.
شعر الشواهد:
وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو؛ وقد اشترط ذلك علماء المصرين: "البصرة والكوفة" بعد أن قامت المناظرات بينهم في فروع النحو ومسائله، وكانوا يستشهدون على ذلك بأشعار الطبقتين من الجاهليين والمخضرمين، ثم اختلفوا في الإسلاميين كجرير والفرزدق، وأكثرهم على جواز الاستشهاد بأشعارهم. وكان أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن إسحاق، والحسن البصري، وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم، ويعدونهم من المولدين الذين لا يستشهد بكلامهم؛ قال الأصمعي: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. وأبو عمرو هذا كان يقول في شعر تلك الطبقة: لقد حسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته!
وللعلماء كلام كثير في الطبقات التي يجوز الاستشهاد بأشعارها من أهل الحضر، ولكن الثقات منهم مجمعون على أن ذلك لا يتجاوز نفرًا من طبقة المحدثين ممن ينتسبون في العرب، ونقل ثعلب