علمت أني عييت بأمر هذا الحيوان فلذت بجانب الصبر، والصبر كما يعلم إخواننا الصابرون حجة العاجز، وحيلة الضعيف، وأيسر ما يستطيع أن يدفع به دافع عن نفسه ملامة اللائمين، وفضول المتطفلين، وقلت في نفسي لو كان البعوض يفهم ما أقول لقصصت عليه قصتي، وشرحت له عذري، وسألته أن يمنحني ساعة واحدة أقوم فيها بكتابة رسالتي هذه ثم هو بعد ذلك في حل من جسمي ودمي ينزل منهما حيث يشاء، ويمتص منهما ما يشاء، ولكنه ويا للأسف لا يسمع شكاتي, ولا يرحم ضراعتي ولا يفهم معنى الرحمة, ولا يعرف قيمة المروءة؛ لأنه ليس بإنسان.
أحسب أن لذعات البعوض قد أخذت مأخذها من عقلي وفهمي, وأني قد بدأت أهذي هذيان المحموم فمن أين لي أن لو كان البعوض إنسانا كان يسمع شكاتي، ويكشف ظلامتي، أو يفهم معنى الرحمة، ويعرف قيمة المروءة، ومتى كان الإنسان أحسن حالا من البعوض, وأرحم منه قلبا وأشرف غاية, فأتمنى أن لو كان مكانه، بل من أين لي أن هذا الذي أحسبه بعوضا ليس بإنسان تقمص البعوض وتمثل لي في جسمه الصغير وجناحه الرقيق، وأي غرابة في أن أتخيل ذلك ما دام الإنسان والبعوض سواء في حب الشر والميل إلى الأذى، وما دامت الصورة الجثمانية لا قيمة لها في جانب