أهل المدينة سمع غناءها فعلقها وشغف بها، وأنه يجيء في كل ليلة مستترا يقف بالباب حتى يسمع غناءها ثم ينصرف؛ فراعيت مجيئه، فإذا الفتى قد أقبل مقنّع الرأس، فأشرفت عليه وقد قعد مستخفيا، فلم أدع بها تلك الليلة، وجعلت أتأمّل موضعه، فبات مكانه الذي هو فيه؛ فلما انشق الفجر اطلعت عليه، فإذا هو في موضعه، فدعوت قيّمة الجواري فقلت لها: انطلقي الساعة فزيّني هذه الجارية وأعجلي بها إليّ. فلما جاءت بها نزلت وفتحت الباب وحرّكته، فانتبه مذعورا؛ فقلت له: لا بأس عليك! خذ بيد هذه الجارية فهي لك، وإن هممت ببيعها فردّها إليّ! فدهش وأخذه الخبل ولبط به «1» ؛ فدنوت من أذنه! فقلت: ويحك! قد أظفرك ببغيتك، فقم فانطلق بها إلى منزلك! فإذا الفتى قد فارق الدنيا، فلم أر شيئا قط أعجب منه! قال عبد الملك: وأنا والله ما سمعت شيئا قط أعجب من هذا ولولا أنك عاينته ما صدّقت به؛ فما صنعت بالجارية؟ قال: تركتها عندي، وكنت إذا ذكرت الفتى لم أجد لها مكانا من قلبي، وكرهت أن أوجّه بها إلى يزيد فيبلغه حالها فيحقد عليّ، فما زالت تلك حالها حتى ماتت!
طريفة وأيوب المغني
: ووقف رجل يقال له طريفة على أيوب المغني فقال:
إني قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يسعى لها مثلي
لا أبتغي شيئا لديك سوى ... «حيّ الحمول بجانب الرّمل»
فقال له: انزل، فلك ما طلبت، فنزل، فأخرج عوده ثم غناه بقول امريء القيس:
حيّ الحمول بجانب الرمل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي
فلبط «2» بطريفة، فإذا هو في الأرض منجدل، فلما أفاق قام يمسح التراب عن