المسدود وزنين ودبيس
أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغا عن أبي عكرمة قال:
خرجت يوما إلى المسجد الجامع ومعي قرطاس لا كتب فيه بعض ما استفيده من العلماء، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا ببابه المسدود، وكان من احذق الناس بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت إلى المسجد الجامع، لعلي أستفيد فيه حكمة أكتبها. فقال: أدخل بنا على أبي عيسى. قال: فقلت: مثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بغير إذن! قال: فقال للحاجب: اعلم الامير بمكان أبي عكرمة. قال: فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان يحملوني حملا؛ فدخلت إلى دار لا والله ما رأيت احسن منها بناء، ولا اظرف فرشا، ولا صباحة وجوه؛ فحين دخلنا نظرت إلى أبي عيسى، فلما أبصرني قال لي: ما يعيش من يحتشم! اجلس، فجلست، فقال: ما هذا القرطاس بيدك؟ قلت: يا سيدي حملته لاستفيد فيه شيئا، وأرجو أن أدرك حاجتي في هذا المجلس. فمكثنا حينا، ثم أتينا بطعام ما رأيت أكثر منه ولا احسن، فأكلنا؛ وحانت مني التفاتة، فإذا أنا بزنين ودبيس؛ وهما من أحذق الناس بالغناء، قال: فقلت: هذا مجلس قد جمع الله فيه كلّ شيء مليح. قال: ورفع الطعام وجيء بالشراب؛ وقامت جارية تسقينا شرابا ما رأيت أحسن منه، في كل كأس لا أقدر على وصفها؛ فقلت: أعزك الله، ما أشبه بقول ابراهيم بن المهدي يصف جارية بيدها خمر:
حمراء صافية في جوف صافية ... يسعى بها نحونا خود من الحور «1»
حسناء تحمل حسناوين في يدها ... صاف من الرّاح في صافي القوارير «2»
وقد جلس المسدود وزنين ودبيس، ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء؛ فابتدأ المسدود فغنّى:
لما استقلّ بأرداف تجاذبه ... واخضرّ فوق حجاب الدرّ شاربه «3»