فقال لي: أتأذن لى اليوم في ذكرك، فإنّي اليوم عنده؟ فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك من أين هذا؟ فينفتح لك ما تريد، ويكون الجواب أسهل عليك من الابتداء. فمضى علوية؛ فلما استقر به المجلس غناه الشعر الذي أمرته به، وهو:
يا مشرع الماء قد سدّت مسالكه ... أما إليك سبيل غير مسدود»
لحائم حار حتى لا حياة له ... مشرّد عن طريق الماء مطرود
فلما سمعه المأمون قال: ويلك! لمن هذا؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته! قال: إسحاق! قلت: نعم. قال: ليحضر الساعة. قال إسحاق: فجاءني الرسول، فسرت إليه؛ فلما دخلت قال: ادن. فدنوت؛ فرفع يديه مادّهما؛ فاتكأت عليه؛ فاحتضنني بيديه؛ وأظهر من اكرامي وبرّي ما لو اظهره صديق لي مواس لسرّني.
الرشيد وعبثر
قال: وحدثني يوسف بن عمر المدني قال: حدثني الحارث بن عبيد الله قال:
سمعت إسحاق الموصلي يقول: حضر مسامرة الرشيد ليلة عبثر المغني، وكان فصيحا متأدبا، وكان مع ذلك يغني الشّعر بصوت حسن، فتذاكروا رقة شعر المدنيين، فأنشد بعض جلسائه أبياتا لابن الدمينة حيث يقول:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
فأعجب الرشيد برقة الابيات، فقال له عبثر: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الشعر مدني رقيق، قد غذي بماء العقيق، حتى رق وصفا، فصار أصفى من الهواء، ولكن