كتاب الزبرجدة الثانية في بيان طبائع الانسان وسائر الحيوان
قال أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في المتنبئين، والممرورين والبخلاء، والطفيليين.
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وتفاضل البلدان، والنعمة والسرور؛ إذ لم يكن مدار الدنيا إلا عليها، ولا قوام الأبدان إلا بها؛ وإذ هي نمو الفراسة، وتركيب الغريزة، واختلاف الهمم، وطيب الشيم وتفاضل الطعوم.
وقد تكلم الناس في النعمة والسرور، على تباين أحوالهم، واختلاف هممهم وتفاوت عقولهم، وما يجانس كل رجل منهم في طبعه، ويؤلفه في نفسه، ويميل إليه في وهمه؛ وإنما اختلف الناس في هذا المذهب لاختلاف أنفسهم، فمنهم من نفسه غضبية، فإنما همه منافسة الأكفاء، ومغالبة الأقران، ومكاثرة العشيرة ومنهم من نفسه ملكية، فإنما همه اليقين في العلوم، وإدراك الحقائق، والنظر في العواقب؛ ومنهم من نفسه بهيمية، فإنما همه طلب الراحة، وانهماك النفس على الشهوة من الطعام والشراب والنكاح؛ وعلى هذه الطبيعة البهيمية قسمت الفرس دهرها كلّه، فقالوا: يوم المطر للشرب، ويوم الريح للنوم، ويوم الدجن للصيد، ويوم الصحو للجلوس. وهي أغلب الطبائع على الإنسان، لأخذها بمجامع هواه، وإيثار الراحة وقلة العمل، فمنه قولهم: الرأي نائم والهوى يقظان؛ وقولهم: الهوى إله معبود؛ وقولهم: ربيع القلب ما اشتهى، وقولهم: لا عيش كطيب النفس.