نام کتاب : الصبح المنبي عن حيثية المتنبي نویسنده : البديعي، يوسف جلد : 1 صفحه : 25
الحسين بديع الزمان الهمذاني، فإنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط فيحفظها كلها ويؤديها من أو لها إلى آخرها لا يخرم حرفاً، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لا يعرفه ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سرداً
ويطلعك على حقيقته ذلك ما جرى بينه وبين الأستاذ أبي بكر الخوارزمي من المناظرة يوم اجتماعها في دار السيد أبي القاسم المستوفي، بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف وغيرهم من سائر الناس.
قال البديع: وأول القصة أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور دارا، وإلا جوار السادة جوارا، وقديماً كنا نسمع بهذا الفاضل، ونقدر أنا إذا وردنا بلدة يخرج لنا في العشرة عن القشرة؛ فقد كانت لحمة الأدب جمعتنا، وكلمة الغربة نظمتنا، وقد قال الشاعر:
أجارتَنا إنا غريبان هاهنا ... وكلُّ غريب للغريب نسيبُ
فاخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق من بزة بزوها، وفضة فضوها وذهب ذهبوا به؛ ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة؛ وزي أوحش من طلعة المعلم، فما حللنا إلا قصبة جواره. ولا وطئنا إلا عتبة داره بعد ما كتبنا له: إنا لقرب الأستاذ أطال الله بقاه " كما طرب النشوان مالت به الخمر ".
ومن الارتياح للقائه " كما انتفض العصفور بلله القطر " ومن الامتزاج بولائه " كما التقت الصهباء والبارد العذب " ومن الابتهاج بمزاره " كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب " فكيف نشاط الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان، بل عتبتي الجبلونيسابور؟ وكيف اهتزازه لضيف:
رثّ الشمائل مُنْهَج الأثواب ... بكرتْ عليه مُغيرة الأعراب
وهو أيده، الله ولى إنعامه، بإنفاذ غلامه، إلى مستقري لأفضى إليه بما عندي.
قال البديع: فلما أخذتنا عينه سقانا الدردي من أول دنة. وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنه. من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره، فقاربناه إذ جانب، وواصلناه إذ جاذب، وشربناه على كدورته، ولبسناه على خشوتنه، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستمد وداده، ونستميل فؤاده، بقولنا: الأستاذ أزرى بضيفه إذ وجده يضرب آباط القلة في أطمار الذلة. فأعمل في تربيته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة؛ من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام، وتكلف لرد السلام، وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا وتأبطته شرا. ولم آله عذرا؛ فإن المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقزز صف النعال.
فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب لقلت إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:
وفيهم مقاماتُ حسانُ وجوهُهُم ... وأندية ينتابها القولُ والفعل
ولو طرحت بأبي بكر إليهم طوارح الغربة، لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه لمضيف خصيبا، ورأى الأستاذ أبي بكر في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله.
فأجاب: وصلت رقعة سيدي ومولاي، ورئيسي أطال الله بقاءه إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنته من حسن خطابه ومؤلم عتابه وصرفت ذلك منه إلى الضجر الذي لا يخلو منه من مسه عسر. ونبابه دهر. أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه في القيام، فقد وفيته حقه على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه. فأما القوم الذين صدر عنهم فكما وصف. ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد.
فإن أكُ قد فارقتُ نجداً وأهلهَ ... فما عهد نجد عندنا بذميمْ
والله يعلم نيتي للناس كافة، ولسيدي خاصة، فإن أعانني على ما في نفسي. بلغت إليه ما في النية، وجاوزت مسافة القدرة، وإن قطع على طريق عشرتي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناتي عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
فما النفسُ إلا نطفةُ بقرارة ... إذا لم تكُدَّر كان صفواً معينها
وبعد فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتباً، واقترفنا ذنباً، فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله.
قال البديع: فلما ورد الجواب عمدنا لذكره فسحوناه عن صحيفتنا، ومحونا، وصرنا إلى اسمه فأخذناه، ونبذناه، وتركنا خطته، وتجنبنا خلطته، ومضى على ذلك الأسبوع، ودبت الأيام، ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير السماع ذكره، ولا نودع الصدر حديثه، وجعل يستزيد ويستعيد بألفاظ تقطعها الأسماع من لسانه وتردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها على. فكاتبناه: أنا أرد من الأستاذ شرعة وده وإن لم تصف، وألبس خلعة بره وإن لم تضف. وقصاراي أن أكيله صاعاً عن مد، وإن كنت في الأدب دعى النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيئ المنقلب.
سيدي ناقشني في الحساب القبول أولاً، وصار فني في الإقبال ثانياً؛ فأما حديث الاستقبال وأمر الإنزال فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد فكلفة الفضل بينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، فلم اختار قعود التعالي مركباً، وصعود التغالي مذهباً، وشوقي قد كد الفؤاد برحاً إلى برح، ونكأة قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة. ونفس حرة، وليس إلا غصص الشوق نتجزعها وحلل الصبر نتدرعها، وأنا لو أعرت جناح طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه.
قال البديع: وبقينا نقنع بالذكر وصلا حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب، وأفضت الحال إلى أن قال: لو أن بهذا البلد رجلاً تأخذه أريحية الكرم يجمع بيني وبينه؟، واتفق أن السيد أبا علي نشط للجمع بيننا، فدعاني فأجبت، ثم عرض على حضوره فطلبت، فلما جاءنا تركناه على غلوائه حتى إذا نفض ما في رأسه وفرغ جعبة وسواسه، عطفنا عليه، وقلنا: فلتهدأ ضلوعك، وليفرخ روعك ولتسكن سورتك. ولتلن فورتك، ولا ترقص لغير طرب. ولا تحم لغير سبب، وقديماً كنت أسمع بحديثك؛ فيعجبني الالتقاء بك، والاجتماع معك، والآن إذ سهل الله ذلك، فهلم إلى الأدب ننفق يومنا عليه، وإلى الجدل نتجاذب طرفيه، ولنبدأ بالفن الذي ملكت به زمانك، وأخذت منه مكانك، وطار به اسمك بعد وقوعه، وارتفع له ذكرك عقب خضوعه. . .
فقال: وما هو؟ قلت الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت، فأحجم عن الحفظ رأسا، ولم يجل في النثر قدحا، وقال أبادهك، واقترح علينا أن نقول على وزن قافية أبي الطيب: أرق على أرق ومثلي يأرق وابتدر أبو بكر إلى الإجازة، ولم يزل إلى الغايات سباقاً فقال:
وإذا ابتدهتُ بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتغلق
وإذا قرضتُ الشعر في ميدانه ... لا شك أنك يا أخيَّ تَشَقَّق
إني إذا قلتُ البديهة قلتها ... عَجلا وطبعك عند طبعي يَرفُق
مالي أراك ولست مثلي عندها ... مُتمَّوها بالتُرهات تُمخْرق
إني أُجيز على البديهة مثل ما ... تريانه وإذا نطقتُ أصدّق
لو كنتَ من صخر أصمَّ لهاله ... مني البديهة واغتدى يتلَّفق
أو كنت ليثا في البديهة خادراً ... لرئيت يا مسكين منَّي تَفْرَق
وبديهة قد قلتها متنفساً ... فقل الذي قد قلتَ يا ذا الأخرق
ثم وقف يعتذر، ويقول: هذا كما يجيء لا كما يجب، فقلت قبل الله عذرك فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك. وقلت:
مهلا أبا بكر فزندك أضيق ... فأخرَس فإن أخاك حي يرزق
دعني أعرك إذا سكت سلامة ... فالقول ينجُد في ذويك ويُعرق
ولفاتك فتكاتُ بيضِ سيوفكم ... فدع الستور وراءها لا تُخْرق
وأنظر لأشنع ما أقول وأدعى ... أله إلى أعراضكم مُتسلق
يا أحمقا، وكفاك ذلك خَزْية ... جرَّبت نار معرتي هل تحرق؟
فلما أصابه حَرُّ الكلام، ومسه لفحُ هذا النظام، قال: يا أحمقا لا يجوز، فإنه لا ينصرف، وقطع علينا؛ فقلنا: يا هذا لا تقطع، فإن شعرك إن لم يكن عيبة عيب، فليس بظرف ظرف، وأما أحمق فلا يزال يصفعك وتصفعه، حتى ينصرف وتنصرف معه، وعرفناه أن للشاعر أن للشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف، كما أن له رأيه في القصر والحذف.
وقلنا: أخبرنا عن بيتك الأول، أمدحت أم قدحت؟ وذكيت أم جرحت؟ ففيه شيئان متفاوتان، ومعنيان متباينان، بدأت فخاطبت بيا سيدي، وعطفت فقلت تتغلق. وهما لا يركضان في حلبة، ولا يخطان في خطة؛ ثم قلت له: خذ وزناً من الشعر حتى أسكت عليك، فتستوفي من القول حظك، وأسكت علينا حتى نستوفي حظنا، ثم إني أحفظ عليك أنفاسك، وأوافقك عليها، واحفظ على أنفاسي ووافقني عليها؛ فإن عجزت حفظتها لك. وأخذنا بيت المتنبي: أهلاً بدار سباك أغيدها.
فقلت: يا نعمة لا تزال تجحدها، ومنة لا تزال تكندها فقال: ما معنى تكندها؟ فقلت: كند النعمة كفرها، فرفع رأسه وقال: معاذ الله أن يكون كند بمعنى جحد، فتلونا:) إن الإنسان لربه لكنود (. وقلت له: أليس الشرط أملك، والعهد بيني وبينك أن تكست ونسكت، كي تتم ونتم، فنبذ الأدب وراء ظهره، وصار إلى السخف يكلينا بصاعه ومده، فقلت: يا هذا إن الأدب غير سوء الأدب. ولو كان في باب الاستخفاف شيء أعظم من الاحتقار، وإنكار أبلغ من ترك الإنكار، لبلغته منك. فأخذ يمضي على غلوائه، ويمعن في هرائه وهذائه وقلت: أستغفر الله من مقالتك، وسكت حتى عرف الناس أني أملك من نفسي ما لا يملكه، وأسلك من طريق الحلم ما لا يسلكه، ثم عطفت عليه فقلت: يا أبا بكر إن الحاضرين قد أعجبوا من حلمي بأضعاف ما أعجبوا من علمي. وتعجبوا من عقلي أكثر مما تعجبوا من فضلي وبقى الآن أن يعلموا أن هذا السكوت ليس عن عي وأن تكلفي للسفه أشد استمراراً من طبعك، وغربي في السخف أمتن عوداً من نبعك، فقال: أنا قد كسبت بهذا العقل دية أهل همذان مع قلته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزراته؟ فقلت: هذا الذي به تتمدح من أنك شحذت فأخذت، فهذا عندنا صفة ذم، وقد صدقت. أنت بهذه الحلبة أسبق، وفي هذه الحرفة أعرق، وأنا قريب العهد بهذه الصنعة، حديث الورد لهذه الشرعة، وما أضيع وقتاً قطعته بذكرك، ولساناً دنسته باسمك، وملت إلى القوال. فقلت: أسمعنا خيراً، فغنى أبياتاً منها:
وشَبَّهنا بَنفْسَجَ عارِضيْه ... بقايا اللطم في الخد الرقيقِ
فقال أبو بكر: أحسن ما في الأمر أني أحفظ هذه القصيدة وهو لا يعرفها. فقلت: إن أنشدتكها ساءك مسموعها، ولم يسرك مصنوعها، فقال: أنشد، فقلت: روايتي تخالف هذه الرواية، وأنشدت:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشْم في الخد الصفيق
فأتته السكتة، وأضجرته النكتة، وانطفأت تلك الوقدة، وانحلت تلك العقدة، ودفع القوال فبدأ بأبيات، ولحسن بأصوات، وجعل النعاس يثني الرءوس، ويمنع الجلوس، فقمنا إلى ما وطئ من مضجع، ومهد من مهجع، ولم يكن النوم ملأ العيون، ولا شغل الجفون، حتى أقبل وفد الصباح، وحيعل المؤذن بالفلاح، وندب إلى النهوض بالمفروض، فلما قضينا الفرض، فارقنا الأرض، وظني أن هذا الفاضل يأكل يده ندماً، ويبكي على ما جرى دمعاً ودماً، وأنه إذا نام هاله منا طيف، وإذا انتبه راعه منا سيف، وسعوا بيننا بالصلح، وعرفنا له فضل السن، فقصدناه معتذرين إليه، فأومأ إيماءة مهيضة، واهتز اهتزازة مغيضة، وأشار إشارة مريضة، بكف سحبها على الهواء سحباً، وبسطها في الجو بسطاً، وعلمنا أن للمقهور أن يستخف ويستهين، وللقاهر أن يحتمل ويلين، فقلنا: إن بعد الكدر صفواً، كما أن عقب المطر صحواً، وعرض علينا الإقامة سحابة ذلك اليوم، فاعتللنا بالصوم، فلم يقبل العذر وألح، فقلت: أنا وذاك، فطعمنا عنده، وخرجنا والنية على الجميل موفورة، وبقعة الود معمورة، وصرنا لا نتعلل إلا بمدحه، ولا نتنقل إلا بذكره، ولا نعتد إلا بوده، لا. بل ملأنا البلد شكراً، والأسماع نشراً، وبينا نحن من الحال في أعذبها شرعة، ومن المقة في أطيبها جرعة، ومن المودة في أعزها بقعة، وأوسعها رقعة، حتى طرأ علينا رسولان محتملان مقالته، ومؤديان رسالته، ذاكران أن أبا بكر يقول قد تواترت الأخبار، وتظاهرت الآثار، في أنك قهرت، وأني قهرت، ولا شك أن ذلك التواتر عنك صدرت أوائله، والخبر إذا تواتر به النقل، قبله العقل، ولا بد أن نجتمع في مجلس بعض الرؤساء، فتناظر بمشهد الخاصة والعامة، فإنك متى لم تفعل ذلك لم آمن عليك تلامذتي، أو تقر بعجزك وقصورك عن بلوغك أمدي. ومنال يدي، فقلت: هذا التواتر ثمرة ذلك التناظر، مع ذلك التساتر، فإن ساءك فأحر أن يسوءك عند مجتمع الناس، ومحتفل أولى الفضل، ولأن تترك الأمر مختلفا فيه خير لك من أن يتفق عليه، وإن أحببت أن تطير هذا الواقع، وتهيج هذا الساكن، فرأيك موفق.
ثم مضت على ذلك أيام، ونحن منتظرون لفاضل ينشط لهذا الفصل، وينظر بيننا بالعدل، فاتفقت الآراء على أن يعقد هذا المجلس في دار أبي القاسم الوزير، واستدعيت، فسرحت الطرف من ذلك السيد في عالم أفرغ في عالم، أو ملك في درع ملك، ونطق فودت الأعضاء لو أنها أسماع مصغية، واستمع فودت الجوارح لو أنها ألسنة ناطقة، وكنت أول من حضر، وطلع الإمام أبو الطيب وهو بنفسه أمة، ووحده عالم. ثم حضر السيد أبو الحسين، وهو أبن الرسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، وحضر بعد ذلك أبو عمر البسطامي، وناهيك به من حاكم يفصل، وناظر يعدل، ثم حضر القاضي أبو نصر، والأدب أدنى فضائله، وأيسر فواضله، وحضر الشيخ أبو سعيد محمد بن أرمك، وهو الرجل الذي تحميه لألاؤه، ولوذعيته من أن يذال بمن؟ أو ممن الرجل؟ وحضر أبو القاسم بن حبيب، والفقيه أبو الهيثم، ورائد الفضل يقدمهما، وقائد العقل يخدمهما، وحضر الشيخ أبو نصر المرزبان، والفضل منه بدأ وإليه يعود، وحضر بعده أصحاب الإمام أبي الطيب وأصحاب الأستاذ أبي الحسن الماسرجسي، وأصحاب الأستاذ أبي عمر البسطامي، وهم في الفضل كأسنان المشط، ومنه بأعلى مناط العقد، وحضر الشيخ أبو سعيد الهمذاني، وله في الفضل قدحه المعلى، وفي الأدب حظه الأعلى، ثم حضر أصحاب الأسبلة المسبلة، والأسوكة المرسلة، رجال يلعن بعضهم بعضاً، فقلت: من هؤلاء؟ فقالوا: أصحاب الخوارزمي.
فلما أخذ المجلس زخرفه ممن حضر، وانتظر أبو بكر فتأخر، اقترحوا على قوافي أثبتوها، واقتراحات كانوا بيتوها، فما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار: من لفظ إلى المعنى نسقته، وبيت إلى القافية سقته. على ريق لم أبلعه، ونفس لم أقطعه. وقال الإمام أبو الطيب لن نؤمن لك حتى نقترح القوافي، ونعين المعاني، وننص على بحر، فإن قلت على الروي الذي أسومه، وذكرت المعنى الذي أرومه، فأنت حي القلب كما عهدناك، شجاع الطبع كما وجدناك، فلما خرجت من عهدة هذا التكليف، حتى ارتفعت الأصوات بالهيللة من جانب، والحوقلةمن آخر. وتعجبوا إذ أرتهم الأيام ما لم ترهم الأحلام، وجادهم العيان بما بخل به السماع، وأنجزهم الفهم ما أخلفهم الوهم، ثم التفت فوجدت الأعناق تلتفت وما شعرت إلا بهذا الفاضل، وقد طلع في شملته، وهب بجملته، ومشى إلى فوق أعناق الناس يريد الصدر، فقلت: يا أبا بكر تزحزح عن الصدر، فقال لست برب الدار، فتأمر على الزوار، فقلت: حضرت لتناظري، والمناظرة اشتقت إما من النظر، وإما من النظير، ومن حسن النظر أن يكون مقعدنا واحداً، حتى يتبين الفاضل من المفضول، ثم يتطاول السابق، ويتقاصر المسبوق، فقضت الجماعة بما قضيت.
ثم قلت: في أي علم تريد أن نتناظر؟ فأشار إلى النحو، فقلت: إن شئت أن أناظرك فيه فسلم ما كنت تدعيه، من سرعة في البديهة، وجودة في الروية، وقدرة على الحفظ، ونفاذ في الترسل، فقال: لا أسلم ذلك، ولا أناظر في غير هذا، وارتفعت المضاجة، واستمرت الملاجة، حتى قال له الأستاذ أبو عمر: أنت أديب خراسان، وبهذه الأبواب التي قد عدها هذا الشاب كنا نعتقد لك السبق، وتثاقلك عن مجاراته فيها مما يوهم، واضطره إلى منازلة أو نزول عنها. فقال: سلمت الحفظ، فقلت: خفف الله عنك كما خففت عنا في الحفظ، فلو سلمت البديهة مع الترسل، حتى نفرغ للنحو والأمثال واللغة والعروض والأشعار فقال: ما كنت لأسلم الترسل، ولا سلمت الحفظ، فقلت: الراجع في فيئه كالراجع في قيئه؛ لكنا نقيلك عن ذلك السماح.
أنشدنا خمسين بيتاً من قبلك مرتين، حتى أنشدك عشرين بيتاً من قبلي عشرين مرة، فعلم أن من دون ذلك خرط القتاد، فسلمه ثانياً، كما سلمه بادياً، وصرنا إلى البديهة، فقال أحد الحاضرين هاتوا على شعر أبي الشيص في قوله:
أبقى الزمانُ به نُدوب عِضاضِ ... ورَمَى سوادَ قُرونه ببياض
فبدأ أبو بكر مقداراً أنا نغفل عن أنفاسه، أو نوليه جانب وسواسه، ولم يعلم أنا نحفظ عليه الكلم، فقال:
يا قاضياً ما مثله من قاضٍ ... أنا بالذي تقضي علينا راضِ
فلقد لَبِست ضَفيِةَّ ملمومةً ... من نسج ذاك البارق الفَضْفاض
لا تغضبنّ إذا نظمتُ تنفساً ... إن الغضى في مثل ذاك تغاضِ
فلقد بُليتُ بشاعر متقادرِ ... ولقد بليت بناب ذيب غاض
ولقد قرضت الشعر فأسمع وأستمع ... لنشيد شعر طائعاً وقراض
فلأغلبنّ بديهةً ببديهتي ... وَلأَرمينّ سوادَه ببياض
فقلت ما معنى ضيفة ملمومة؟ وما الذي أردت بالبارق الفضفاض؟ فأنكر أن يكون قاله قافية، فقالوا له: قد قلت. ثم قلت ما معنى قولك ذيب غاض؟ فقال هو الذي يأكل الغضى قلت: استنوق الجمل، وصار الذئب جملا يأكل الغضى. فما معنى أن الغضى في مثل ذاك تغاض، فإن الغضى لا أعرفه بمعنى الإغضاء فقال لم أقل الغضى، وأنكر البيت جملة فقلت: ما أغناك عن بيت تهرب منه وهو يتبعك، وتتبرأ منه وهو يلحق بك. فما معنى قراض فلم أسمعه مصدراً من قرضت الشعر. ثم دخل الرئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر، والشيخ أبو زكريا الحيري، وطبقة من الأفاضل وأخذ الرئيس مكانه من الصدر، وقال: قد ادعيت عليه أبياتاً أنكرها فدعوني من البديهة على النفس واكتبوا ما تقولون فقلت:
برز الربيع لنا برونق مائة ... فانظر لروعة أرضه وسمائه
فالتربُ بين مُمَسَّك ومُعَنْبر ... من نَوْره بل مائة وُروائه
والماء بين مُصَنْدل ومُكفّرٍ ... في حُسْن كُدرته ولون صفائه
والطيرُ مثل المُحصَنات صوادحُ ... مثلُ المغنى شادياً بغنائه
والوردُ ليس بِمُمْسك رَياه بل ... يُهدي لنا نَفَحاته من مائهِ
زمنَ الربيع جلَبتَ أزكى مَتْجرٍ ... وجلوت للرائين خيرَ جِلائه
فكأنه هذا الرئيس إذا بدا ... في خَلْقه وصفاته وعطائه
ما البحرُ في تزخاره والغيث في ... إمطاره والجو في أنوائه
بأجلّ منه رغائباً ومواهباً ... لا زال هذا المجد حلفِ قَبائه
والسادة الباقون سادةُ عصرهم ... متمدَّحون بمدحه وثنائه
وقال أبو بكر تسعة أبيات رددتها عليه، وقلت لمن حضر أرأيتم لو أن رجلاً حلف بالطلاق لا ينشد شعراً قط وأنشد هذه الأبيات فقط، هل تطلق امرأته؟ فقالت الجماعة لا يقع بهذا طلاق. ثم قلت: أنقد علي كما نقدت، وأحكم عليه كما حكمت. فأنتقد ما انتقد، وكفتني الجماعة جوابه، وقالوا: قد علمنا أي الرجلين أشعر؟ وأي الخصمين أقدر.
ثم ملنا إلى الترسل فقلت: اقترح على غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، حتى أقترح عليك أربع مائة صنف في الترسل، فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، فلك يد السبق، ومثال ذلك أن أقول لك: اكتب كتاباً يقرأ منه جوابه هل يمكنك أن تكتب؟ أو أقول لك أكتب كتاباً في المعنى الذي أقول، وأنص عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل، ولا تغافل حتى إذا كتبت ذلك قرئ من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرئ من أسفله، هل كنت تفوق لهذا الغرض سهماً، أو تجيل قدحاً، أو تصيب نجحا؟ أو قلت لك أكتب كتاباً إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتاباً؛ وإذا عكست سطوره مخالفة كان جوابا، أو قلت لك! كتب كتاباً في المعنى الذي يقترح لا يوجد فيه حرف منفصل، من راء تتقدم الكلمة بديهة، هل كنت تفعل؟ أو قلت لك أكتب كتاباً خالياً من الألف واللام هل كنت تقف من ذلك موقفاً محموداً؟ أو قلت لك أكتب كتاباً يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل؟ أو تبل لهاتك بناطل؟ أو قلت لك اكتب كتاباً أوائل سطوره كلها ميم وآخرها جيم، على المعنى الذي يقترح هل كنت تغلو في قوسه غلوة؟ أو تخطو في أرضه خطوة؟ أو قلت لك: اكتب كتاباً إذا قرئ معرجاً وسرد معوجاً وسرد معوجاً كان شعراً هل كنت تقطع في ذلك شعراً؟ بلى والله تصيب ولكن من بدنك. وتقطع ولكن من ذقنك. أو أقوال لك: اكتب كتاباً إذا فسر على وجه كان مدحاً، وإذا فسر على وجه كان مدحاً، وإذا فسر على وجه آخر كان قدحاً، هل كنت تخرج عن هذه العهدة؟ أو أقوال لك: اكتب كتاباً تكون حفظته من قبل أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به إلى ما أطاولك بعد؟ لا. بل) أست البائن أعلم.. (.
فقال أبو بكر هذه الأبواب شعبذة. فقلت: وهذا القول طرمذة. فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها حتى أباحثك على مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأشبر قلمك، وأسبر فيها لسانك وفمك؟ فقال الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان المتعارفة بين الناس. فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة سوى هذه الطريقة الساذجة. وهذا النوع الواحد المتداول بكل قلم، المتناول بكل لسان وفم، ولا تحسن هذه الشعبذة؟ فقال: نعم. فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل. وأناضلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفاظك، ويعارض إنشائي بإنشائك. واقترح كتاب يكتب في النقود وفسادها، والتجارات ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها. والأسعار وغلائها. فكتب أبو بكر: الدرهم والدينار ثمن الدنيا والآخرة، بهما يتوصل إلى جنات النعيم ويخلد في نار الجحيم، قال الله تبارك وتعالى:) خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم (. وقد بلغنا من فساد النقود ما أكبرناه أشد الإكبار. وأنكرناه أعظم الإنكار؛ لما نراه من الصلاح للعباد وننويه من الخير للبلاد. وتعرفنا في ذلك ما يربح للناس في الزرع والضرع. ويعود إليه أمر الضر والنفع. . . إلى كلمات لم تعلق بحفظنا فقلت: إن الإكبار والإنكار والعباد والبلاد وجنات النعيم ونار الجحيم والزرع والضرع أسجاع قد ثبتت في المعد، ولم تزل في اليد. وقد كتبت وكتبت. ولا أطالبك بمثل ما أنشأت، وناولته الرقعة فتبقى وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافة، وقالوا لي أقراه فجعلت أقرؤه واسرده معكوساً. وكان ما أنشأناه: الله شاء إن المحاضر صدور بها، وتملأ المنابر ظهور لها، وتفرع الدفاتر وجوه بها، وتمشق المحابر بطون لها ترشق آثاراً كانت فيه آمالنا مقتضى على أياديه في تأييده الله أدام الأمير جرى فإذا المسلمين ظهور عن الثقل هذا ويرفع الدين أهل عن الكل هذا يحط أن في إليه نتضرع ونحن واقفة والتجارات زائفة، والنقود صيارفة؛ أجمع الناس صار فقد كريما نظراً لينظر شيمه مصاب وانتجعا كرمه بارقة وشمنا هممه على آمالنا رقاب، وعلقنا أحوالنا وجوه له، وكشفنا آمالنا وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن ونعماه تأييده وأدام بقاه الله أطال الجليل الأمير رأى إن.
وصلى الله على محمد وآله الأخيار.
فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين، فملنا إلى اللغة، فقلت: خذ غريب المصنف إن شئت وإصلاح المنطق إن أردت، وألفاظ ابن السكيت إن نشطت، ومجمل اللغة إن اخترت، وأدب الكتاب إن أردت، واقترح على أي باب شئت من هذه الكتب حتى أجعله لك نقداً وأسرده سرداً، فقال اقرأ من غريب المصنف فقرأت الباب الذي أراده ولم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه. ثم قلت اقترح غيره، فقالوا كفى ذلك فقلت له اقرأ الآن باب المصادر من فصيح الكلام. فوقف حماره، وخمدت ناره. وقال الناس اللغة مسلمة لك أيضاً، فهاتوا غيره. فقلت يا أبا بكر هات العروض؛ فهو أحد أبواب الأدب، وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها وعللها وزحافها فقلت: هات الآن فاسرده كما سردت. وضجر الناس وتقوض المجلس.
هذا ملخص ما جرى بينهما.
قال أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي: قدم أبو الطيب المتنبي اللاذقية في سنة نيف وعشرين وثلاثمائة وهو كما عذر وله وفرة إلى شحمتي إذنيه فأكرمته وعظمته لما رأيته من فصاحته وحسن سمته. فلما تمكن الأنس بيني وبينه، وخلوت معه في المنزل اغتناماً لمشاهدته، واقتباساً من أدبه، قلت: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير.
فقال: ويحك أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل! فظننت
نام کتاب : الصبح المنبي عن حيثية المتنبي نویسنده : البديعي، يوسف جلد : 1 صفحه : 25