أقول: إن الربيع حياة النفوس، وبشر الزمن العبوس، وواسطة عقد الدهر، وغرة جبهة العصر، وطبع الحياة ورونق العمر ونزهة النواظر والقلوب والمشبه بصفة المحبوب، فيه تأخذ الأرض بهجة زينتها وزخارفها، وتبرز في حللها الأنيقة ومطارفها، وتجلي في ملابسها السندسية، وتضوع الآفاق بنفحاتها المسكية الذكية، وفيه بعث النبات ونشوره ونضارة العيش ونوره، كلما بسمت ثغوره بكى الغمام، ومتى رقصت غصونه غنى لها الحمام، ومتى انتظم نواره فاق اللآلئ في النظام، فكأن أغصانه هيف قدود تتعاطى ميلاً وتأوداً، وكأن شقيقه خدود زادها العتب نضارة وتورداً، وكأن نرجسه عيون ينفث سحرها في العقد، وكأن أقاحه ثغور تفتر عن طلع كالبرد، وقد جالت دموع الطل في وجنات ورده الجني، ولاح بنفسجه كالعذار في حسن الرواء ونضارة الري، وقد باح نسيمه بسر الخزام ونبه أطياره نشر القداح والنمام، قد اتخذت من عذبات الأغصان منابر، وأغنت عن أصوات العيدان والمزاهر، اعتدل فيه عمر الليل والنهار، وأشبهت أرضه السماء بنجوم الأزهار، فكأن الأرض فيه مرآة صقلتها يد الأنواء، فانطبعت في جرمها صور كواكب السماء.
وقد وصفه الشعراء فأحسنوا في أوصافه وبالغوا في نعوت مجالسه وألطافه.
وها أنا أذكر ما جرت عادتي بذكر مثله في هذا المختصر، وبالله جلت عظمته أستعين وعليه أتوكل.
قال الأعشى في وصف امرأة، قال أبو عبيدة ولم يقل في الروض أحسن من هذه الأبيات:
ما روضةٌ من رياضِ الحزنِ معشبةٌ ... خضراءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلُ
يضاحكُ الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ ... مؤزّرٌ بعميم النبتِ مكتهلُ
يوماً بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذْ دنا الأصلُ
وقال عبد الله بن المعتز:
ما مثل منزلةِ الدُّويرةِ منزلٍ ... يا دارُ جادكِ وابلٌ فسقاكِ
بؤسي لدهرٍ غيّرتكِ صروفهُ ... لم يمحُ من قلبي الهوى ومحاكِ
لم يحلُ للعينينِ بعدكِ منظرٌ ... ذمَّ المنازلُ كلهنَّ سواكِ
أيُّ المعاهدِ منكِ أندبُ طيبة ... ممساكِ ذا الآصالِ أمْ مغداكِ
أمْ برد ظلكِ ذي الغصونِ وذي الجنى ... أم أرضكِ الميثاءَ أم رياكِ
وكأنَّما سطعتْ مجامرُ عنبرٍ ... أوْ فُتَّ فأرُ المسكِ فوقَ ثراكِ
وكأنَّما حصباءُ أرضكِ جوهرٌ ... وكأنَّ ماءَ الوردِ قطرُ نداكِ
وكأنما أيدي الربيع نديّةً ... نشرتْ ثيابَ الوشي فوقَ رباكِ
وكأنَّ درعاً مُفرغاً من فضةٍ ... ماءُ الغديرِ جرتْ عليه صباكِ
وقال يصف الروض:
قد أغتدي على الجيادِ الضمّرِ ... والنجمُ في طرّةِ صبحٍ مسفرِ
كأنهُ غرَّة مهرٍ أشقرِ ... والوحشُ في أوطانها لم تنفرِ
والليلُ معسولٌ بلبلٍ ممطرِ ... كالعصبِ أو كالوشي أو كالجوهرِ
من أبيضٍ وأصفرٍ وأحمرِ ... والأرضُ ريَّا ذاتُ عودٍ أخضرِ
ملتحف بالورقِ المنتشرِ ... فيه الندى مستوقف لم يقطرِ
كدمعةٍ حائرةٍ في محجرِ
وقال البحتري:
أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً ... من الحسنِ حتّى كادَ أنْ يتكلَّما
وقد نبَّه النيروزُ في غسقِ الدجى ... أوائلَ وردٍ كنَّ بالأمسِ نوَّما
يُفتِّحه بردُ الندى فكأنه ... يبثُّ حديثاً كانَ قبلُ مكتَّما
ومن شجرٍ ردَّ الربيعُ لباسَه ... عليه كما نشرتْ وشياً منمنما
أحلّ فأبدى للعيونِ بشاشةً ... وكانَ قذًى للعينِ إذ كان مُحرما
وقال ابن الرومي:
ورياضٍ تخايلُ الأرضُ فيها ... خيلاءَ الفتاةِ في الأبرادِ
ذات وشيٍ تكلفته سوارٍ ... لبقاتٌ تحوكها وغوادي
شكرتْ نعمةَ الوليِّ على الوس ... مي ثم العهاد بعد العهادِ
فهي تثني على السماءِ ثناءً ... طيّب النشر شائعاً في البلادِ
بنسيم كأنَّ مسراه في الأرْ ... واح مسرى الأرواح في الأجسادِ
تتداعى فيها حمائم شتَّى ... كالبواكي وكالقيان الشوادي
وقال أبو هلال العسكري:
وروضةٍ حاليةِ الصدورِ ... كاسيةِ البطونِ والظهورِ
شقائق كناظرِ المخمورِ ... وأقحوان كثغور الحورِ
ونرجس كأنجم الديجورِ ... والطلّ منثورٌ على المنثورِ