ولما هجته قريش دعا حسان بن ثابت، وقال: يا حسان إنَّ قريشاً هجتني فهاجِهم وجبريل معك. وفي رواية: فهاجِهم وروح القدس ينفث على لسانك. وفي رواية عن عائشة، رضوان الله عليها، قالت: سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلّم يقول لحسان: إنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافَحْتَ عن الله ورسوله.
ويقال: نافحتَ عن فلان: خاصمتَ عنه.
وكان أبو بكر وعمر، رضوان الله عليهما، شاعرين، وكان عليٌّ، عليه السلام، أشعر منهما. ولما احتضر أبو بكر قالت عائشة، رضوان الله عليهما:
لعمرك ما تغني التمائم والرقى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
الحشرجة: الغرغرة عند الموت وتردد النفس. ففتح عينه، وقال: يا بُنَيّة قولي: وجاءت سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ.
وكان عمر، رضوان الله عليه، إذا خلا ترنم بالشعر وأنشده. وأما عليٌّ، عليه السلام، فقد ذكر الرواة أن له ديواناً، وكان يستشهد بالشعر في خطبه ورسائله، أنشد في ذكره ابن ملجم، لعنه الله تعالى:
أُريد حِباءهُ ويريدُ قتلي ... عذيري من خليلي من مُرادِ
وأنشد في قصة أخرى قول دُرَيْد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصحَ إلاّ ضحى الغدِ
وهو من أبيات الحماسة. وأنشد في قصة أخرى:
شتَّانَ ما يومي على كورها ... ويومَ حيَّان أخي جابرِ
وكانت فاطمة، عليها السلام، تتمثل بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلّم، بهذه الأبيات:
يا عينُ بكي عند كل صباح ... جودي بأربعة على الجراحِ
الأربعة: الشؤون، وهي مجاري الدموع.
قد كنتُ ذاتَ حميّةٍ ما عشتَ لي ... أمشي البراحَ وكنتَ أنتَ سلاحي
البراح، بالفتح: المتسع من الأرض، لا زرع لي ولا شجر، أي أمشي في الفضاء عزيزةً ظاهرةً لا أخاف أحداً، وما بعده يفسره.
فاليوم أخضعُ للذليلِ وأتقي ... منه وأدفعُ ظالمي بالراحِ
وأغض من بصري وأعلم أنه ... قد بان حدّ صوارمي ورماحي
وإذا دعت قمريّة شجناً لها ... يوماً على شجنٍ دعوت صباحي
أي قلت: وا صباحاه.
وكان علي ينشد بعد موت فاطمة متمثلاً:
لكل اجتماع من خليلين فرقةٌ ... وكلُّ الذي بعدَ الفراقِ قليلُ
وإن افتقادي فاطماً بعد أحمد ... دليل على أن لا يدوم خليلُ
ويُروى: واحداً بعد واحدٍ، وقبلهما:
ذكرت أبا أروى فبتُّ كأنني ... بردِّ الهمومِ الماضياتِ وكيلُ
وكان الحسين بن علي، عليهما السلام، ينشد وهما من شعره:
لعمرك إنني لأحبُّ داراً ... تحل سكينةُ والرَّبابُ
أُحبهما وأنفق جلَّ مالي ... وليس لعاذلٍ عندي عتابُ
وكان عبد الله بن عباس جالساً يفتي فدخل عليه عمر بن أبي ربيعة المخزومي وأنشده قصيدته التي أولها:
أمن نعمٍ أنتَ غادٍ فمبكرُ ... غداةَ غدٍ أمْ رائحٌ فمهجرُ
حتى انتهى إلى قوله فيها:
رأت رجلاً أما إذا الشمسُ قابلتْ ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخصرُ
أخا سفرٍ جوّابَ أرضٍ تقاذفتْ ... بهِ فلواتٌ فهو أشعثُ أغبرُ
حتى انتهى إلى آخرها، فعاد إلى الحديث مع الجماعة، فقالوا: يا حبر الأمة نحن نضرب إليك أكباد الإبل لنستفتيك في الحلال والحرام فيأتيك مترف من قريش فينشدك:
رأت رجلاً أما إذا الشمس قابلت ... فيضحى وأما بالعشيِّ فيخسر
فتعرض عنا وتقبل عليه، فقال: ما هكذا قال، ولكنه قال:
فيضحَى وأما بالعشي فيخصرُ
ولقد حفظت القصيدة، وإن شئتم أنشدتها من آخرها إلى أولها، قالوا: نعم، ففعل.
فأما التابعون وغيرهم من الخلفاء والأمراء فلو أراد أحد أن يجمع من أشعارهم واستشهاداتهم كتاباً كبيراً لكان ذلك سهلاً عليه. فلولا كان الشعر من الشرف ومحله من الفضل لما جاز لهؤلاء سماعه فضلاً عن عمله وإنشاده والاستشهاد به في الوقائع، وعلى كتاب الله، وأخبار رسوله.
فأما الآن فهذه شريعة قد نسخت وسنّة قد مسخت وقاعدة قد درست وطريقة قد طَمست وطُمست ومذهب قد ذهب ضياعاً وتفرق شعاعاً وهجر فلا يرى عياناً ولا يسمع سماعاً، وبناءٌ دعا بالرجل مشيدوه فوهى وتداعى، فالنسيان أولى بالإنسان واطراح هذه الأمور أشبه بالحال في هذا الزمان.