ما دام في العمر اخضرارٌ عوده ... سهل، وصعبٌ عوده إذا ذوى
إذا أُضيع أوّل العمر أبت ... أعجازه إلا اعوجاجاً والتوا
قيل: ورجع الإسكندر من بابل وقد أحاطت به البلابل وظهرت به آثار السقام، حتى ثقل لسانه بالكلام وكان قد رأى في منامه وطيب لذيذ أحلامه أنه سيموت فوق أرض من حديد وتحت سماء من حديد، ثم أخذه العطش والحمى والتلهب والظمأ ففرشوا تحته دروع الحديد وظللوا فوقه بالجحف الفولاذ استجلاباً للتبريد، فأفاق بعد زمان من الغشوة واللهف، فرأى دروع الحديد تحته وفوقه الجحف، فأيقن بارتحاله، فكتب كتاباً إلى أمه بصورة حاله وأوصاها بأن تعمل له وليمة عجيبة الأسلوب، وأن لا يحضرها إلا من لا أصيب بخليل ولا محبوب.
فلما مات رحمه الله وضع في تابوت من ذهب ليحمل إلى أمه بالإسكندرية، واجتمعت له هذه النعم وعمره ست وثلاثون سنة. وكان مدة ملكه تسع سنين. فقال حكيم الحكماء: ليتكلم كل منكم بكلام ليكون للخاصة معزياً وللعامة واعظاً. فقام أحدهم وقال: لقد أصبح مستأسر الملوك أسيراً. وقال آخر: هذا الإسكندر كان يخبأ الذهب فصار الذهب يخبؤه. وقال آخر: العجب كل العجب أن القوي قد غلب والضعفاء مغترون. وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً ولا واعظ أبلغ من وفاتك. وقال آخر: رب هائب لك لا يقدر أن يذكرك سراً وهو الآن لا يخافك جهراً. وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض في طولها والعرض، ليت شعري كيف حالك في قدر طولك؟. وقال آخر: يا من كان غضبه الموت هلا غضبت على الموت؟ وقال آخر: سيلحق بك من سره موتك. وقال آخر: مالك لا تحرك عضواً من أعضائك وقد كنت تزلزل الأرض؟