يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال لم أرهما قبل ولا بعد وقال جبريل عليه الصلاة والسلام: يا محمد أي أصحابك أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: " الذين شهدوا بدراً "، قال: كذلك الملائكة أفضلهم الذين شهدوا بدراً، وقصة الوقيعة على الشرح والإيضاح في كتب المغازي.
وببدر جبل عظيم من رمل شديد البياض كان بياضه إذا طلعت عليه الشمس يعشي الأبصار وهم يسمعون من ذلك الجبل دوياً فيدل ذلك على خصب العام عندهم ويرى على بدر في الليل الغاسق نور ساطع لا يرى على سواه.
بذونة (1)
في أرض الحبشة على الساحل، وهي خراب قليلة العمارة وحشية المساكن قذرة البقاع وعيش أهلها من السمك ولحوم الصدف والضفادع والأحناش والفيران والورل وأم حبين وغير ذلك من الحيوانات التي لا تؤكل، وهم يتصيدون في البحر عوماً بشباك يصنعونها ويربطونها بأرجلهم وهم أهل فاقة وفقر وضيق حال، وهم في طاعة الزنج.
البذندون (2)
على طريق طرسوس، كان المأمون بن الرشيد خرج إلى الصائفة على طريق طرسوس فمرض بعين يقال لها عين البذندون وذلك سنة ثماني عشرة ومائتين فمات في رجب، وكان لما خرج عهد إلى سائر حصون الروم ودعاهم إلى الإسلام وخيرهم ببن الإسلام والجزية والسيف وذلل النصرانية، وأجابه خلق من الروم إلى الجزية، فلما نزل البذندون جاءه رسول ملك الروم فقال له: إن الملك يخيرك بين أن يرد عليك نفقتك التي أنفقتها من بلدك إلى هذا الموضع وبين أن يخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم بغير فداء: لا درهم ولا دينار [3] ، وبين أن يعمر لك كل بلد للمسلمين قد أخربته النصرانية ويرده كما كان وترجع عن غزاتك هذه، فقام المأمون ودخل إلى خيمته وصلى ركعتين واستخار الله عز وجل وخرج وقال للرسول: قل له أما قولك ترد علي نفقتي فإني سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون. فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " وأما قولك إنك تخرج كل أسير من المسلمين في كل بلد الروم فما في يدك إلا أحد رجلين إما رجل طلب الله عز وجل والدار الآخرة فقد صار إلى ما أراد وإما رجل طلب الدنيا فلا فك الله أسره، وأما قولك إنك تعمر كل بلد للمسلمين قد خربه الروم فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما اعتضت بامرأة عثرت [4] في حال أسرها فقالت: وامحمداه، عد إلى صاحبك فليس بيني وبينه إلا السيف، يا غلام اضرب الطبل، فرحل فلم ينثن عن غزاته حتى فتح أربعة عشر حصناً وانصرف من غزاته فنزل عين البذندون المعروفة بالقشيرة وأقام هناك حتى ترجع رسله من الحصون، فوقف على العين ومنبع الماء فأعجبه برد مائها وصفاؤه وحسن بياضه وطيب الموضع وكثرة الخضرة، فأمر بقطع خشب طوال فبسطت على العين كالجسر وجلس عليه والماء تحته، وطرح في الماء درهم فقرأ كتابته وهو في قرار الماء لصفائه، ولم يقدر أحد يدخل الماء من شدة برده، فبينما هو كذلك إذ لاحت سمكة نحو الذراع كأنها سبيكة فضة فأمر من أخرجها فلما صارت على حرف العين أو على الخشب اضطربت وانملست من يد الفراش فوقعت في الماء كالحجر فنضحت الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته فبلت ثوبه ثم أخذها الفراش ثانية فوضعها بين يدي المأمون في منديل تضطرب فقال المأمون: تقلى الساعة، ثم أخذته رعدة من ساعته لم يقدر يتحرك من مكانه فغطي باللحف والدواويج وهو يرعد كالسعفة ويصيح: البرد.. البرد، ثم حول إلى المضرب ودثر وأوقدت النيران حوله وهو، يصيح: البرد، ثم أتي بالسمكة وقد فرغ من قليها فلم يقدر على ذوقها وشغله ما هو فيه عن تناول شيء منها، ولما اشتد الأمر عليه سأل المعتصم بختيشوع وابن ماسويه عنه وهو في سكرات الموت ما الذي يدل عليه علم الطب من أمره وهل يمكن برؤه، فتقدم ابن ماسويه فأخذ إحدى يديه وبختيشوع الأخرى وأخذا المجسة من كلتا يديه فوجدا نبضه خارجاً عن الاعتدال منذراً بالفناء والتزقت أيديهما ببشرته لعرق كان يظهر في سائر جسده كالرب أو كلعاب الأفاعي فأنكرا معرفة العرق وذكرا أنهما لم يجداه في شيء من الكتب وأنه دال على انحلال الجسد، وأفاق المأمون من غشيته وفتح عينيه وأمر بإحضار ناس من الروم
(1) نزهة المشتاق: 22.
(2) في ياقوت: البذندون - بذل منقوطة، ودال مهملة، وهي بمهملتين في أكثر المصادر الجغرافية، وتاريخ الطبري، وفي الأصلين: البدبدون في هذا الموضع، وانظر وفاة المأمون في الطبري 3: 1134. والقصة كما وردت هنا منقولة عن مروج الذهب 7: 94. [3] زيادة ضرورية من المسعودي. [4] في الأصلين: عشرت؛ وفي المروج: عثرت عثرة.