تسمى آبله فسقيت بذلك الماء، وبجوفي مدينة بجانة حمة أخرى أغزر من الحمة الأولى إلا أن الأولى أنجع في الأسقام وأصلح للأبدان، وهم يزعمون أن جرية الأولى على الكبريت وجرية هذه على النحاس، وتذكر الأعاجم أن ملك تدمير وملك ريه في غابر الدهر خطبا ابنة ملك أرش اليمن وما يليه فشرطت ابنة الملك أن من بلغ ماء إحدى الجهتين حتى يدخله في دار سكنى أبيها، وكانت في موضع مدينة بجانة اليوم، أنه أحق ببضعها، فجد كل واحد منهما في ذلك وجهد جهده، وبنيا قنياً يجلبون الماء فيها فاعترض صاحب الحمة الجوفية خندق ولم يكن بد من بناء قناطر عليه فشغله ذلك حتى بلغ صاحب الحمة الشرقية ماءه، فزوجه الملك ابنته، وأثر ما حاولاه من ذلك باق في الجانبين إلى اليوم.
وبين بجانة والمرية خمسة أميال أو ستة أميال، وكانت بجانة في القديم هي المدينة المشهورة قبل المرية فانتقل أهلها إلى المرية فعمرت وخربت بجانة، ولم يبق منها الآن إلا آثار بنيانها ومسجد جامعها قائم بذاته، وحول بجانة جنات وبساتين ومتنزهات وكروم وأموال كثيرة، وعلى ستة أميال منها حصن الحمة، والحمة في رأس جبل، ذكر المسافرون أنه لا نظير لهذه الحمة في معمور الأرض إتقان بناء وسخانة ماء، والمرضى يقصدونها من جميع الجهات ويقيمون عليها حتى يشفوا من أمراضهم، ويرحل إليها أهل المرية في فصل الربيع بنسائهم وأولادهم باحتفال في المطاعم والمشارب والتوسع في الإنفاق، فربما بلغ المسكن في الشهر بها ثلاثة دنانير مرابطية وأقل وأكثر.
وكان السبب في نزول البحريين مدينة بجانة أنه لما اشتدت شوكة بني ادريس بن ادريس الحسنيين بالمغرب أمر خلفاء بني أمية بضبط السواحل وألا تجري في البحر جارية إلا تحت نظر وإشراف، وكان لا يخرج خارج من الأندلس إلا بسراح ولا يدخل أحد حتى يعرف خبره ومن حيث ورد ما الذي أورده ولا تظهر في البحر جارية إلا استخبر أمرها وعرف شأنها ومتى ألفي في البحر قارب يزيد على اثني عشر ذراعاً ممسوح العجز نقض ورد إلى المقدار المذكور، فلم يزل الأمر كذلك إلى أن تحركت الفتن بالأندلس ووقعت الفترة في احتراس البحر وسواحله، فاتخذ قوم من أوباش الأندلس مراكب وكانوا يأتون بها السواحل الخالية ويحملون الناس إلى كل جهة وهم المسمون بالبحريين وكان عظم نزولهم نواحي طرطوشة، فلما قوي أمرهم وكثر جمعهم غزوا أهل مرشانة وأخفروا العهد الذي كان بين الأمير وبينهم، فأصابوا فيهم شيئاً، فلما صدروا بغنائمهم لم يأمنوا على أنفسهم إن نزلوا سواحل الأندلس، فكانوا ينتجعون هناك البلاد وينتهزون الفرص في المراكب إذا أمكنتهم ويغزون سواحل افرنجة، وغيرها، ثم أجمعوا على الانصراف إلى الأندلس واستيطان موضع منها، ثم نزلوا شرقي وادي أرش اليمن وهو خلاء قفر، فخرجوا هنالك ولاطفوا من بإزائه من العرب وهادوهم بتحف المشرق وطرائفه وأوسعوهم براً فأذنوا لهم في النزول فانتشروا على وادي أرش اليمن، وافترقوا في قراه على وجه التصنيف والتجارة، وأظهروا أحسن المعاملة وأداء الطاعة، ثم كثروا وتلاحق بهم من كان تخلف عنهم واشتدت شوكتهم وعظمت على تلك الناحية مضرتهم، حتى تغلبوا على مدينة بجانة وطردوا عنها مشاهير عربها ومن تقدمت له رياسة بها، وفرقوهم في البلاد وابتنوا مدينة بجانة على هيئة مدينة قرطبة واستأذنوا الإمام محمد بن عبد الرحمن في ذلك ورغبوا إليه أن يسجل لرجل منهم ويعقد له بالتأمير عليهم، وكان الأمير محمد مشغولاً بقيام ابن مروان وعمر بن حفصون وغيرهما، فعقد لهم ما أرادوا وكان ذلك في سنة ست وسبعين ومائتين [1] فأحسنوا مجاورة أهل بجانة وأظهروا العدل فيهم، وكان عربها قد أساءوا مجاورتهم وأكثروا الجور فيهم، فتسامع الناس بأمرهم وما بسطوه من عدلهم فأموا مدينة بجانة من الأقاليم القاصية والأقطار النائية وصارت حرماً لمن سكنها وأمناً لمن أوطنها واتخذوا حولها حصوناً كثيرة فلم تزل الولاية تتردد فيهم إلى أن كان آخرهم ولاية عبد الرحمن بن مطرف بن عبد الرحمن بن أصبغ الطائي وكان صالحاً ورعاً قد حج حجات، عقد له الولاية على أهل بجانة أمير المؤمنين عبد الرحمن سنة ثلاث وثلاثمائة ثم اختلفت عليها الولاة بعد ذلك إلى أن فسد النظام واختل الترتيب كما في سائر البلاد.
بجاية (2)
قاعدة الغرب الأوسط، مدينة عظيمة على ضفة البحر يضرب سورها، وهي على جرف حجر ولها من جهة الشمال جبل يسمى امسيول [3] وهو جبل سام صعب المرتقى، وفي أكنافه جمل من النبات المنتفع به في صناعة الطب مثل البرباريس [1] لابد أن يكون هذا في عهد المنذر لأن الأمير محمداً توفي سنة 273، ونقل بروفنسال عن مباهج الفكر أن هذا الاستيطان تم سنة 271، وهو الأصوب فيما يبدو.
(2) الاستبصار: 128، والإدريسي (ب/ د) : 62 - 64/ 90 - 92. [3] الإدريسي: مسيون، وقد تقدم أمسيول في باب الهمزة من الروض.