فيا ويح نفسي لا أرى الدهر منزلاً ... لعلوة إلا ظلت العين تذرف
ولو دام هذا الوجد لم يبق عبرة ... ولو أنني من لجة البحر أغرف وله:
بأبي ريم تعرض لي ... عن رضا في طيه غضب
فأراني صبح وجنته ... بظلام الصدغ ينتقب
فأتى بالكأس مترعة ... كضرام النار يلتهب
فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشهب
ولها من ذاتها طرب ... فلهذا يرقص الحبب وتوفي سنة سبع وخمسمائة بأصبهان. الأبلة (1)
بضم الهمزة والباء واللام المشددة، مدينة بالعراق بينها وبين البصرة أربعة فراسخ ونهرها الذي في شمالها، وجانبها الآخر على غربي دجلة، وهي صغيرة المقدار حسنة الديار واسعة العمارة متصلة البساتين عامرة بالناس المياسير وهم في خصب من العيش ورفاهية.
وهي في قول محمد بن سيرين القرية التي مر بها موسى والخضر عليهما السلام فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، قالوا: وهم أبخل أهل قرية وأبعدها من السخاء، ويحكى أن أهلها رغبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أن يثبت في المصحف: فأتوا أن يضيفوهما بالتاء المثناة بدل الباء وقالت فرقة: بل القرية انطاكية، وقيل: هي برقة، ويقال: إنها الجزيرة الخضراء بالأندلس.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمر بحفر نهر الأبلة فلما ولي عثمان رضي الله عنه جعل نصف النفقة على أهل الخراج والنصف الثاني على بيت المال، فمدوه إلى البصرة. والأبلة مدينة قديمة عامرة فتحها عتبة بن غزوان في زمن عمر رضي الله عنه [2] ، ولما نزل عتبة الخريبة وبالأبلة خمسمائة من الأساورة وكانت مرفأ الصين وما دونها، خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة، وأمر رجلين من أصحابه فقال لهما: كونا في عشرة فوارس في ظهورنا فتردان المنهزم وتمنعان من أرادنا من ورائنا، ثم التقوا فاقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها، ثم منحهم الله تعالى أكتافهم فولوا منهزمين حتى دخلوا المدينة، ورجع عتبة إلى عسكره فأقاموا أياماً وألقى الله عز وجل في قلوبهم الرعب، فخرجوا عن المدينة وحملوا ما خف وعبروا الفرات وخلوا المدينة، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعاً وسلاحاً وسبياً وعيناً فاقتسموا العين، وولي نافع بن الحارث أقباض الأبلة فأخرج خمسه ثم قسم الباقي بين من أفاء الله عليه، وشهد فتح الأبلة مائتان وسبعون. قالوا [3] : ولما خرج الناس لقتال أهل الأبلة قالوا للعدو: نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ فقالوا: اعبروا إلينا، فأخذوا خشب العشر وأوثقوه وعبروا، فقال المشركون: لا نأخذ أولهم حتى يعبر آخرهم، فلما صاروا على الأرض كبروا تكبيرة ثم كبروا الثانية فقامت دوابهم على أرجلها ثم كبروا الثالثة فجعلت الدابة نضرب بصاحبها الأرض وجعلنا ننظر إلى رؤوس تندر لا نرى من يضربها، وفتح الله على أيديهم المدينة. وقال سلمة بن فلان [4] : شهدت فتح الأبلة فوقع في سهمي قدر نحاس، فلما نظرت إذا هي ذهب فيها ثمانون ألف مثقال، وكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب أن يحلف سلمة بالله لقد أخذتها يوم أخذتها وهي عنده نحاس فإن حلف سلمت إليه، وإلا قسمت بين المسلمين، فحلفت فسلمت لي، قال: فأصول أموالنا اليوم منها. وقال خالد بن عمير: شهدت فتح الأبلة مع عتبة بن غزوان فأصبنا سفينة مملوءة جوزاً فقال رجل منا: ما هذه الحجارة؟ وكسرناها فأكلنا منها فقلنا هذا طعام طيب.
وقال علي بن سعيد: كان فخر الدين علي بن الدامغاني قدمه الخليفة المستنصر على ديوان الزمام، قال: وصحبته من مدينة السلام إلى أسافل دجلة لجمع الأموال فانحدرنا إلى البصرة وحللنا بين نهر معقل ونهر الأبلة، فنصب فخر الدين هناك خيمة وتزاحم الوفود عليه من المسلمين واليهود والنصارى والصابئة والمجوس، فقلت له:
ما بين نهر الأبله ... وبين معقل حله
(1) انظر ياقوت (الإبلة) ونزهة المشتاق: 121. [2] الطبري [1]: 2384. [3] الطبري [1]: 2387. [4] هو سلمة بن المحبق كما في الطبري.
الغوري آخر ملوك الجراكسة في حدود سنة 720 ونحن نعلم أنه توفي سنة 922؟ إذن هنا يجب أن نقف عند الخطأ التقليدي للنساخ حين يضعون سبعمائة بدل تسعمائة (أو العكس) ونقول: الصواب " قبل سنة 920 " وإما أن نعتقد أن اسم قانصوه الغوري وقع سهواً في موضع الناصر محمد الذي أصلح طريق العقبة فعلاً قبل سنة 720 (كان ذلك سنة 719) ؛ قال ابن تغري بردي: " وفي هذه السنة (أي 719) مهد السلطان ما كان في عقبة أيلة من الصخور ووسع طريقها حتى أمكن سلوكها بغير مشقة، وأنفق على ذلك جملاً مستكثرة " [1] . وأي الفرضين اخترنا وجدنا أن الإشارة إلى هذه الحادثة لا يمكن أن تكون من عمل المؤلف، فلو قلنا أن قانصوه الغوري وقع سهواً بدلاً من الناصر محمد لكانت هذه الهفوة من عمل إنسان آخر عاش حتى عرف من هو قانصوه الغوري؛ ولو قلنا أن التاريخ الصحيح هو سنة 920 لكان ذلك تجاوزاً لأقصى تاريخ حددته المصادر لوفاة ابن عبد المنعم، وهو سنة 900 كما جاء عند حاجي خليفة، وعلى كلتا الحالين نجد أنفسنا إزاء عبارة مقحمة لا دخل لابن عبد المنعم بها، وهي تتعارض من حيث الزمن مع كون الروض المعطار مصدراً للقلقشندي المتوفى سنة 821 - كما تقدم القول - وسيزداد رفضنا لها عندما نناقش العبارة الثانية التي تدور حول إجلاء المسلمين من لوجارة:
فهذه العبارة الثانية أقوى من سابقتها بكثير، وليس من المستبعد أن تكون الإشارة فيها إلى تلك الحادثة من صنيع المؤلف نفسه، وكان الذي حدا بالأستاذ رتزيتانو إلى ربطها بعام 700 شيئان: وقوع الحادثة حسب المصادر الأخرى سنة 700 وورد عبارة " هذا العهد القريب " ولفظة " الآن " فيها، (وما دام ابن حجر في الدرر يحدد وفاة المؤلف بعام 727 فلا مانع إذن من هذا الربط) وما دامت المصادر الموثوقة قد تحدثت عن حدوث ذلك الجلاء عام 700، فمن المغالاة أن نحيطها بالشك، خصوصاً وأن التاريخ المذكور، يمكن أن يشير إليه مؤلف طعن في القرن الثامن بعدة سنوات. ولكن أحب أن أشير إلى أن لفظة " الآن " لا تعني المعاصرة أبداً لدى صاحب الروض، فإنه إذا وجدها عند مؤلف سابق أبقاها على حالها، فإذا لم ينتبه القارئ لهذه الحقيقة جاءت مضللة. مثال ذلك قوله في مادة (طيبة) : وهي الآن عليها سور حصين منيع من التراب بناه قسيم الدولة الغزي؟ " وهذا كلام الإدريسي حرفياً؛ وذلك يكفي في تبيين نقل المؤلف عمن سبقه دون تصرف، فقد ورد هذا في غير موضع من كتابه؛ فإذا كانت عبارة " هذا العهد القريب " ذات معنى، فإنها تعني القرب من أوائل القرن الثامن، وهي بذلك تنفي الحديث الذي جاء في العبارة الأولى عن قانصوه الغوري وإصلاحه طريق العقبة قبل سنة 920.
9 - إذن، ليس هناك من الناحية الزمنية، ما يعطل نسبة الروض المعطار إلى ابن عبد المنعم الحميري، وإن لم يحاول فيه أن يبرز موقفه، من ناحية الأحداث، أو منتماه السبتي (أو المغربي [1] انظر النجوم الزاهرة 9: 60 أما عن صلة قانصوه الغوري بإصلاح طريق العقبة فانظر بدائع الزهور لابن اياس 4:133، 152؛ 5:95 (ط. القاهرة: 1961) .