وألقت جاريتاه أنفسهما فقطعت يد إحداها، وأجهزت عليه ورفعت رأسه على رمحي، وجال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فقتلوهم كيف شاءوا، وثارت الكمناء من كل ناحية وسبقت خيول المسلمين ورجالهم إلى حصن سبيطلة فمنعوهم من دخوله وركبهم المسلمون يميناً وشمالاً في السهل الوعر، فقتلوا أنجادهم وفرسانهم وأكثروا فيهم الأسر حتى لقد كنت أرى في الموضع الواحد ألف أسير.
وذكر أشياخ من أهل إفريقية أن ابنة جرجير لما أشرفت على العرب في عسكرهم قالت لأبيها: لا تسرف في قتل هؤلاء ونفلنيهم، قال: قد نحلتك إياهم. فلما قتل أبوها تنازع الناس في قتله وهي تنظر، فقالت: ما للعرب يتنازعون؟ قيل لها: يتنازعون في قتل أبيك، فبكت وقالت: قد رأيت الذي أدرك أبي فقتله، فقال لها عبد الله بن أبي سرح الأمير: هل تعرفينه؟ قالت: إذا رأيته عرفته، فأخذ عبد الله الناس بالعرض فمروا بين يديها حتى مر عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقالت: هذا قاتل أبي، فقال له ابن أبي سرح: كتمت عني قتلك أباها يا أبا بكر، فقال: قد علمه الذي قتلته له، فنفله ابن أبي السرح ابنة الملك فاتخذها أم ولد، وكان ابن الزبير رضي الله عنهما في ذلك الوقت ابن بضع وعشرين سنة، ونزل ابن أبى سرح على باب المدينة فحصرها بمن معه حصاراً شديداً حتى فتحها، فأصاب فيها شيئاً كثيراً وأصاب أكثر أموالهم الذهب والفضة، وهو الذي افترع إفريقية، فكانت توضع بين يديه أكوام الذهب والفضة، فقال للأفارق: من أين لكم هذا؟ فجعل رجل منهم يلتمس شيئاً في الأرض حتى جاء بنواة زيتون فقال: من هذا أصبنا الأموال لأن أهل هذا البحر ليس لهم زيت فكانوا يأتوننا يشترون الزيت منا، وكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار هرقلي وسهم الراجل ألف ديار وبث ابن أبي سرح السرايا والغارات من مدينة سبيطلة فبلغت خيله قصور قفصة فسبوا وغنموا وحازوها إلى مرماجنة، فأذلت تلك الوقعة الروم بإفريقية وأصابهم رعب شديد، فلجأوا إلى الحصون والقلاع، واجتمع أكثرهم بقصر الأجم، فطلبوا من عبد الله بن أبي سرح أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار ذهباً على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون من قبل الصلح فهو لهم وما أصابوه بعد الصلح ردوه لهم. ودعا عبد الله بن سعد الأمير عبد الله بن الزبير فقال: ما أحد أحق بالبشارة منك فبشر أمير المؤمنين والمسلمين بالمدينة بما أفاء الله تعالى عليهم، فتوجه عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فبعض الناس يقول: دخل المدينة من سبيطلة في ثماني عشرة ليلة، ومنهم من يقول: وافى المدينة في أربعة وعشرين يوماً من خروجه من سبيطلة. ثم انصرف ابن أبي سرح من إفريقية بعد إقامته بها ستة أشهر راجعاً إلى مصر ووصل إلى المدينة فبيع المغنم، فصفق مروان بن الحكم على الخمس وهي خمسمائة ألف دينار فوضعه عثمان رضي الله عنه، فكان ذلك من أسباب القول في عثمان رضي الله عنه وآل الأمر إلى قتله وما تبع ذلك من الفتن، وأصاب الناس ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه من دخول إفريقية في عهده لأنها مفرقة غير مجمعة وأن ماءها قاس ما شربه أحد من المسلمين إلا اختلفت قلوبهم، فلما دخلوها وشربوا ماءها قتلوا خليفتهم عثمان رضي الله عنه، ثم كانت الفتن.
وقال أبو عبيد: لما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه طرابلس كتب إلى عمر رضي الله عنه بما فتح الله عليه وأنه ليس أمامه إلا إفريقية، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إذا ورد عليك كتابي هذا فاطو دواوينك ورد علي جندي، ولا تدخل إفريقية في شيء من عهدي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إفريقية مفرقة لأهلها غير مجمعة، ماؤها قاس ما شربه أحد من المسلمين إلا اختلفت قلوبهم "، فأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه العسكر بالرحيل قافلاً وفي رواية ان عمر رضي الله عنه كتب إليه: إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة غادرة مغدور بها لا يغزوها أحد ما بقيت.
إفراغة (1)
مدينة بغربي لاردة من الأندلس بينهما ثمانية عشر ميلاً، وهي على نهر الزيتون حسنة البناء لها حصن منيع لا يرام وبساتين كثيرة لا نظير لها.
وحاصرها العدو في جمع كثيف وآلى زعيمهم ابن رذمير على نفسه ألا يبرح حتى يأخذها عنوة، وذلك سنة ثمان وعشرين وخمسمائة في شهر رمضان منها، فنهد إليه يحيى بن علي بعزمة صادقة ونية صحيحة في جموعه فلقاه الله تعالى بركتها وأجناه
(1) (Fraga) .