ولحومها حارة يابسة وشحومها نافعة عندهم من الصمم تقطيراً ومن سائر الأوجاع البدنية. الأنبار (1)
بفتح الهمزة، في العراق بينها وبين بغداد ثلاثة عشر فرسخاً، وهي مدينة صغيرة متحضرة لها سوق وفيها قلعة وفواكه كثيرة وهي على رأس نهر عيسى، وكان فيما سلف قبل الإسلام لا تصل مياه الفرات إلى دجلة وإنما كان مغيضها في البطاح دون أن يتصل شيء منها بدجلة، فلما جاء الإسلام احتفر نهر عيسى حتى وصل به إلى بغداد، وهو الآن نهر كبير تجري فيه السفن إلى بغداد. والأنبار حد بابل، وسميت بهذا تشبيهاً لها ببيت التاجر الذي ينضد فيه متاعه وهي الأنبار، وقيل الأنبار بالفارسية الأهراء لأن أهراء الملك كانت فيها ومنها كان يرزق رجاله، وقال في تحديد العراق: هو ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وعين التمر.
وفيها بويع بالخلافة لأبي جعفر المنصور يوم مات السفاح أخوه، وهي ذات العيون. وأتاها [2] خالد بن الوليد رضي الله عنه في تعبئته التي خرج فيها من الحيرة على مقدمته الأقرع بن حابس، فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم فلم يستطيعوا العرجة ولم يجدوا بداً من الإقدام ومعهم بنات مخاض تتبعهم، فلما نودي بالرحيل صروا الأمهات واحتقبوا المنتوجات لأنها لم تطق السير فانتهوا ركباناً إلى الأنبار وقد تحصن أهلها وخندقوا عليهم فأشرفوا على حصنهم وعلى الجنود التي قبلهم شيرازاذ صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ وأسوده فتصايح عرب الأنبار وقالوا: صبح الأنبار شر جمل يحمل جميله وجمل يسير به عود، فقال شيرازاذ وقد سأل عما يقولون فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم والله لئن لم يكن خالد مجتازاً لأصالحنه. فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة وأطاف بالخندق وأنشب القتال وكان قليل الصبر عنه إذا رآه وسمع به وتقدم إلى رماته فأوصاهم وقال: إني أرى أقواماً لا علم لهم بالحرب فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها، فرموا رشقاً واحداً ثم تابعوا ففقئت ألف عين يومئذ فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وتصايح القوم: ذهبت عيون أهل الأنبار، فراسل شيرازاذ خالداً في الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان في الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى بها فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق وأرز القوم إلى حصنهم، وأرسل شيرازاذ في الصلح على مراد خالد، فقبل منه على أن يخليه ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل ليس معهم من المتاع والمال شيء، فخرج شيرازاذ، فلما قدم على بهمن جاذويه وأخبره الخبر، لامه، فقال له شيرازاذ: إني كنت في قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم وقل ما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم، ثم قاتلهم الجند ففقؤوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسالمة أسلم وأن قرة العين لهم وأن العيون لا تقر منهم بشيء.
وفي خبر البلاذري [3] : لما سار خالد رضي الله عنه إلى الأنبار تحصن أهلها ثم أتاه من دله على سوق بغداد وهو السوق العتيق وكان عند الصراة، فبعث خالد رضي الله عنه المثنى بن حارثة فأغار عليه، فملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء وما خف حمله من المتاع، فلما رأى أهل الأنبار ما نزل بهم صالحوا خالداً رضي الله عنه على شيء رضي به فأقرهم.
ويقال إن صلح الأنبار كان في خلافة عمر رضي الله عنه على يدي جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه على أربعمائة ألف عباءة قطوانية في كل سنة، ويقال على ثمانين ألفاً والله أعلم.
وبعدها افتتح خالد رضي الله عنه عين التمر. والأنبار من المنازل التي عمرت على سالف الأزمان، ولما [4] اطمأن خالد رضي الله عنه بالأنبار والمسلمون وأمن أهل الأنبار وظهروا رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب نزلنا على قوم من العرب قبلنا كانت أوائلهم نزلوها أيام بخت نصر حين أباح العرب فلم نزل عنها.
قال الأصمعي: سئلت قريش: من أين لكم الكتابة قالوا: من الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة قالوا: من الأنبار، وقيل للأنبار: من أين تعلمتم الكتابة قالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوا قول الشاعر:
(1) نزهة المشتاق: 198. [2] الطبري 1: 2059. [3] فتوح البلدان: 301. [4] عاد غلى النقل عن الطبري 1: 2061.