على أن النسختين تتقاربان بعد ذلك كثيراً، وخاصة في الهفوات المشتركة بينهما، كما قال الأستاذ أمبرتو رتزيتانو [1] ، وهذا قد يشير إلى أنهما اعتمدتا على أصل واحد.
ولم يكن في الإمكان إقامة نص سليم في معظمه اعتماداً على هاتين النسختين وحدهما، فإن غلبة التصحيف على الأعلام من قبل الناسخين ولمؤلف قد كان يجعل كل محاولة من هذا القبيل مخفقة لولا اعتمادي على المصادر الجغرافية التي نقل عنها المؤلف نفسه، كذلك فإن ما قام به الأستاذان بروفنسال ورتزيتانو في تحقيق الأماكن الأندلسية والصقلية، قد سهل جانباً من العمل فيما يتعلق بأسماء تلك الأماكن، على أن العالمين المذكورين قد توقفا عند بعض الأعلام التي أوردها المؤلف مصحفة، فلم يستطيعا أن بيتا في أمرها بشيء حاسم.
وقد سرت في تقييد الملاحظات والحواشي على خطة الإيجاز والاقتصاد، وهاهنا أمر يحسن تنبيه القارئ إليه؛ فحين أقول في الحاشية - مثلاً - نزهة المشتاق: 120 أو السيرة [2]: 36، أعني أن المؤلف ينقل مادته من هذا المصدر (مباشرة أو بالواسطة) ، حتى إذا انتهى النقل بدأت فقرة جديدة، على هذا جرى تقسيم الفقرات في المادة الواحدة إلا أن أشير منذ البداية إلى أن المادة كلها منقولة عن المصدر الفلاني، وإلا المادة التي نشرها بروفنسال من قبل، فإن تقسيمها إلى فقرات ينظر في الأكثر إلى الوحدات المتوالية. أما إذا صدرت العبارة في الحاشية بقولي: انظر أو قارن فمعنى ذلك أنني أحاول أن أربط ما ورد في الروض بما ورد في المصادر الأخرى دون أن يكون هناك نقل، إذ المقارنة أو الإحاطة هنا إلى مصدر آخر تكون غايتها توثيق التسمية أو ضبط الاسم، أو وجود شبه قوي بين المادتين، أو وجود فرق واضح بينهما. ولم يكن همي في هذا اللون من الحواشي أن أقيم لكل مادة دراسة تطورية حتى أضعها في ضوء المعلومات الجغرافية الحديثة - فذلك ربما كان أمراً معجزاً - وإنما حرصت دائماً أن أضع مادة الروض المعطار بين موضحين: بين المصادر التي نقل المؤلف عنها، وبين المصادر التي نقلت عنه؛ كل ذلك رغبة في ضبط النص على وجه يرضى عنه المحققون والدارسون. على أني وقفت إزاء بعض الأسماء عاجزاً عن استبانة الوجه الصحيح فيها، فأما أشرت إلى ذلك، في الحاشية، معلناً أني لم أجد شيئاً عنها في المصادر، وإما تركتها عابراً دون إشارة وفي النفس منها شيء.
وحيث وقع المؤلف في التصحيف فكتب " خجنده " في حرف الجيم (جخندة) ووضع " علوة " في باب الغين (غلوة) وجعل " باب " و " بابة " في مادة الياء " ياب " و " يابة ".. الخ ما وقع فيه من تصحيفات، فقد أبقيت هذه الأعلام حيث وضعها وأشرت إلى خطأه، ولكني أعتزم - إن شاء الله - أن أجعل الفهرست كفيلاً بردها إلى وجه الصواب. إذ أثبت هنالك مثلاً (غلوة: صوابها علوة فانظره، وهكذا) ؛ أما إذا كان التصحيف في الباب نفسه مثل: وبدار [1] مجلة كلية الآداب: 136.
وحكمة، فكان يتعهد مصالح رعيته، واتخذ مرآة من أخلاط أقامها على منار في وسط قصره بمكان ينظر فيها جميع الأمم والأقاليم ويقابل ذلك بما يصلحه، وقد كان عهد إلى رئيس كهنته أن يأمرهم بالنظر في كل يوم فيما يحدث في العالم ويخلد ذلك في كتاب، فجمع إليه العلماء والكهناء والمنجمين من جميع الأقطار وعملوا له ما أراد من جميع الطلسمات وغير ذلك. وفي أيامه بنيت الأهرام [1] التي بأرض مصر بسبب أن هذا الملك كان رأى رؤيا هالته: رأى الكواكب البابانية [2] في صور طير بيض كأنها تخطف العالم وتلقيهم بين جبلين وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة كلها، فأخبر بذلك كهانه وعلماءه، فأولوا ذلك على أنه يدل على آفة نازلة من السماء مفسدة للأرض وأهلها وحيوانها وقالوا له: هي آفة محيطة بأقطار الأرض إلا اليسير، وذلك إذا نزل قلب الأسد في أول دقيقة من السرطان وتكون الشمس والقمر في أول دقيقة من الحمل، فقدر الملك أن ذلك غرق يأتي على الأرض ومن فيها، فأمر ببناء الأهرام والبرابي لتخليد علومهم وصناعاتهم وسير ملوكهم وسنتهم في رعيتهم، وأمر ببناء أعلام عظام تكون خزائن أموالهم وكنوزهم وذخائرهم وقبوراً لهم تحفظ أجسادهم من الفساد، وأمر أن يكون ذلك كله في حجر صلد لا تغيره الدهور ولا يفسده الطوفان، وقيل أمر ببناء هذه الأهرام والبرابي من حجارة ومن طين، فإن كان هذا الحادث ماء ذهبت التي هي من طين وبقيت التي هي من حجارة، وإن كانت ناراً ذهبت التي هي من حجارة وبقيت التي هي من طين، فكان ذلك الحادث ماء فذهبت الطين وبقيت الحجارة، ثم اختار موضعاً لبناء تلك الأعلام، بقرب النيل في الجانب الغربي منه، وجعل طول حائط الهرم مائة وخمسين ذراعاً في عرض مثل ذلك، وارتفاعه في السماء أربعمائة ذراع وعمقها تحت الأرض مثل ارتفاعها فوق الأرض، وعرض الحائط عشرين ذراعاً. فلما تم بنيان الأهرام والبرابي أمر الملك أن يكتب على حيطان البرابي وسقوفها جميع الأشياء وغوامض الأمور ودلائل النجوم وعللها وسائر الطبائع وعمل الأدوية وتأليفها ومعرفة العقاقير وأسماؤها وصورها وعلم صنائع الكيمياء وغيرها مما ينفع ويضر، كل ذلك ملخصاً مفسراً لمن عرف كتابتهم، وفهمها، ونقش في حيطانها وسقفها جميع الطلسمات، وكتب على كل طلسم خاصيته ونفعه وضرره ولما وضع، وجعل في تلك الأهرام فنوناً من الذهب والفضة والكيمياء وحجارة الزبرجد الرفيعة والجواهر النفيسة، فلما تمت هذه الأهرام والبرابي على ما أراد الملك قال لهم: انظروا هل تفسد هذه الأعلام؟ فنظروا فوجدوها باقية لا تزول، فقال لهم: هل يفتح فيها موضع أو يدخل إليها؟ فنظروا وقالوا: يفتح في الهرم الفلاني في الجانب الشمالي منه، فقال: حققوا النظر في معرفة الموضع نفسه، فنظروا وعرفوه أنه يكون لمدة أربعة آلاف دورة للشمس، والدورة سنة، فقال لهم: انظروا مقدار ما ينفق في فتح هذا الموضع، فنظروا فعرفوه فقال: اجعلوا في الموضع الذي يوصل إليه من داخل الهرم ذهباً مقدار ما ينفق على فتحه، ثم حثهم على الفراغ من بناء الأهرام والبرابي ففرغوا منها في ستين سنة، وأمر أن يكتب عليها: بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد هدمها في ستمائة سنة على أن الهدم أهون من البناء، ثم قال لهم: انظروا هل يكون بمصر بعد هذه الآفة آفة أخرى، فنظروا فإذا الكواكب تدل على وقت نظرهم على آفة أخرى نازلة من السماء تكون في آخر الزمان وهي ضد الأولى: نار محرقة لأقطار العالم، فقال لهم: هل توقفونا على أمر آخر بعد هذه الأمور؟ فنظروا فقالوا: إذا قطع قلب الأسد ثلثي دورة وهو آخر دقيقة من العقرب لم يبق من حيوان الأرض متحرك إلا تلف، فإذا استتم أدواره تحللت عقد الفلك. فقال لهم: في أي يوم تنحل عقد الفلك؟ فقالوا له: اليوم الثاني من حركة الفلك، فعجب من ذلك وأمر بتخليد ما قاله العلماء من هذه الحكم في الكتب وأن تستودع في تلك الأهرام، فيقال ان فيها علوم الأولين والآخرين.
قالوا [3] : فلما كان في زمن المأمون بن الرشيد أراد هدم الأهرام، فعرفه بعض شيوخ المصريين أن ذلك غير ممكن ولا يحسن بأمير المؤمنين أن يطلب شيئاً لا يبلغه، فقال: لا بد أن أعلم ما ما فيها، ثم أمر بفتح هرم من أعظمها، ففتح فيه ثلم في جانبه الشمالي لقلة دوام الشمس على من يعمل فيه، فعملوا فيه فوجد حجراً صلداً يكل فيه الحديد، فكانوا يقدون النار عند الحجر [1] ورد الحديث عن الأهرام في كثير من المصادر، وأنظر بخاصة تحفة الألباب: 74 - 77 وخطط المقريزي 1: 30، وحسن المحاضرة 1: 29 - 34،وكثير مما أورده السيوطي أيضاً، ولعل المؤلف ينظر في النقل غلى كتاب الاستبصار: 52 وما بعدها. [2] كذا في ص ع؛ وفي الاستبصار: الكوكب المعروف بالبانية. [3] متابع للاستبصار: 56.