وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رداءة، وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهراً، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا، وقد ارجت نوافح الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض فوشى باسراره، وأفشى أحاديث آسه وعراره، ومشى مختالاً بين لبات النور وأزراره، وهو وجم، ودمعه منسجم، وزفراته تترجم عن غرام، وتجمجم عن تعذر مرام، فلما نظر إليه استدناه وقربه، وشكا إليه من الهجران ما استغربه، وأنشد: متقارب
أيا نفس لا تجزعي واصبري ... وإلاّ فإنّ الهوى متلفُ
حبيب جفاكِ وقلب عصاكِ ... ولاح لحاكِ ولا ينصفُ
شجون منعن الجفون الكرى ... وعوّضها أدمعاً تنزفُ
فانصرف ولم يعلمه بقصته، ولا كشف له عن غصته، وأخبرني أنه دخل عليه في دار المزيّنة والزهر يحسد أشراق مجلسه، والدر يحكى اتساق تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجددت طربها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيب تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها، وتودعه أحاديث أذارها ونيسانها، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب، ويحمل الكاس في راحة أبهى من الكف الخضيب، وقد توشح وكان الثريا وشاحه، وأنار فكان الصبح من محياه كان اتضاحه، فكلما ناوله الكاس خامره سورة، وتخيل أن الشمس تهديه نوره، فقال المعتمد: منسرح
لله ساقٍ مهفهفٌ غنجٌ ... قام ليسقي فجاء بالعجبِ
أهدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهبِ
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد ابا الحسن بن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب، ولم يبد فيع غير نجم كثاقب، فوصل وما للأمن إلى فؤاده من وصول، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول، بعد أن وصى بما خلف، وودع من تخلف، فلما مثل بين يديه أنسه، وأزال توجسه، وقال خرجت من اشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي، وكفكفت فيه غرب دموعي، بفتاة هي الشمس أو كالشمس أخالها، لا يحول قلبها ولا خلخالها، وقد قلت في يوم وداعها، عند تفطر كبدي وانصداعها: طويل
ولمّا التقينا للوداع غديّةً ... وقد خفقت في ساحة القصر راياتُ