حتى الموت فبكت إحدى حظاياه فرمقها بطرفه الكليل، وقال وهو يتنفس الصعداء من حر الغليل: متقارب
ترفّق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل
وبقي ابنه عز الدولة مختبل التلفت، مرتقباً للتفلت، لا يحكم تدبيراً، ولا يملك من أمره قليلاً ولا كثيراً، قد نهك بالغصص، وذهل خوفاً من القنص، إلى أن ركب في البحر طريقاً غير يبس، وساعدته الريح بنفس، فامتطى ثبجه، وأورد غربانه لججه، فكانت أطوع من غربان نوح، وبلغت بأجنحة إلى حيث شاء الجنوح، فأصبح ناس وأطراف شراعه تلوح، وإطلاله تبكي عليه وتنوح، فأزجاه إلى بجاية سكانه، وحياه منها موضعه ومكانه، فاستقر فيها تحت رعاية المنصور بن الناصر، وأوى منها إلى جنات ومقاصر، وتوقد له شهابه، وجدد له العز ذهابه، فمن بديع أفعال المعتصم أن النحلي دخل المرية وعليه إسمال لا تقتضيها الآداب، ولا يرتضها إلا الانتحاب والانتداب، والناس قد لبسوا البياض، وتصرفوا في حضرتهم، في مثل قطع الرياض، والنحلي ظمأن يسعره جواده، عريان لا يستره إلا سواده، فكتب إليه: وافر
أيا من لا يضاف إليه ثان ... ومن ورث العلي بابا فبابا
أيجهل أن تكون سواد عيني ... وأبصر دون ما أبغى حجابا
ويمشي الناس كلّهمُ حماما ... وأمشى بينهم وحدي غرابا
فأدر له حباه، ووصله وحاباه، وبعث إليه من البياض ما لبسه، وجلل به مجلسه، وكتب إليه مع ذلك: طويل
وردتَّ ولليل إليهم مطارف ... عليك وهذي للصباح برودُ
وأنت لدينا ما بقيت مقرّب ... ومعيشك سلسال الجمام برودُ
واخبرني الوزير أبو خالد ابن بشتغير أنه ركب ليتطلع بعض أقطاره، ويتودع فيها بقية نهاره، وقدم بين يديه من آلات أطرابه، وأدوات شرابه، ما تخذه لأنسه جالباً، وللوعته غالباً، فإن إحدى خطاياه المكينات عنده تركها تجود بنفسها، وترود مكان رمسها، فخرج فاراً من قصتها، مستريحاً من غصتها، فلما وضع رجله في ركابه، ودمعه يغلب جلله بانسكابه، خرج من أعلمه بموتها، وعزاه على فوتها، فأمر أن توضع في قبرها، ووصى من ينظر في أمرها، ولم ينصرف من وجهته، ولم ينحرف