نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عني فما في الحق اغتبن
من كسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن
أدرى بها جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن
وما مصابي سوى موتي ويدفني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا
الوزير الكاتب أبو عمرو الباجي رحمه الله تعالى
بحر لا يمتطي ثبجه، ولا تخاض لججه، يقذف لسانه لؤلؤة المكنون، ويصرف من بدائعه الأنواع والفنون، فلا يجاري في ميدان الإحسان، ولا يباري في بلاغة يراعه ولسان، يقص كل بحر عن مداه، ويظهر الإعجاز فيما أظهره من البيان وأبداه، لاح وسماء المعالي قد تزينت بنجومها، وسمع بذكرها ولم ترم برجومها، فظهر أول الظهور وساد، ولم يخش في موضع نفاق الفضل الكساد، والناس إذ ذاك الأعلام، والدنيا تحية وسلام، فتهادته الرياسات، وقادته تلك السياسات، فانتقل إليهم انتقال الشمس في مطالع السعود، ومقل روض الأماني ناضر العود، واستدعاه المقتدر بالله فعرف محله، وأحله من الخطوة لديه ما أحله، فاستحسن ملكه واستطابه، وملا بعوارفه وطابه، ولقي من أهل سرقسطة كل ضاحك بسام، عاضد كالحسام، يرعيه مبرته، ويريه متهللة أسرته.
فلما رحل عنهم حن إليهم أي حنين، وذاب شوقاً غليهم بين أرق وأنين، وفقال يخاطبهم: متقارب
سلام على صفحات الكرم ... على الغرر الفارجات الغمم
على الهمم الفارعات النجوم ... على لأيمن الغامرات الديم
سلام شج لانقلاب المزار ... نوى غربة عن جوار أمم
شجى عن نزاع يذيب الدموع ... بنار الجوانح لا عن ندم
وأي الندامة من مجمع ... على ما نوى همه أي هم
وهل يتلون رأي اللبيب ... إذا جد في أمره واعتزم
عزمت على رحلتي عنكم ... فسرت بقلب شديد الألم
أضاحك صحبي وأطوي الفجاج ... وفي كبدي لاعج كالضرم
فما أنس لا أنس ذاك الحياء ... وذاك السناء وتلك الشيم
ودنيا لكم طلقة المجتلى ... ودهراً بكم واضح المبتسم
وساعات أنس تجول النفوس فيها محال حمام الحرمْ