فكذلك جهالة الرواي بالنسبة لكذبه وتهمته وفسقه، فالاولى
يريد: الجهالة- مظنة لضعف الحديث فحسب، ولاخرى أسباب حقيقة لضعف الحديث، فالمحدث إذا نظر في سند حديث ووجد فيه رجلا مجهولا: حكم بضعفه، لاحتمال ضعف ذلك المجهول، وربما حكم بوضعه، لغلبة الظن عنده بان ذلك المجهول كذاب لاسباب أذكرها بعد إن شاء الله تعالى.
ثم قد يبقى ذلك الحكم مستمرا عنده وعند غيره، لاستمرار الجهل بذلك الراوى عند الجميع، وقد يرتفع ذلك الحكم عنده أو عند غيره لارتفاع جهالة الراوي المذكور، فكم من محدث يجزم بضعف الحديث لظنه بجهالة راو بسنده، ثم بعد ذلك يقف على ترجمته وكونه ثقة معروفا، فيرجع عن حكمه السابق، وكم من حافظ حكم بضعف حديث أو بطلانه معللا ذلك بجهالة بعض الرواة، فتعقبه من بعده بكون ذلك الراوي غير مجهول وأنه معروف إما بالجرح، وقد وقع هذا بكثرة لابن حزم، وعبد الحق، وابن القطان، وابن الجوزي، بل لابن حبان وغيره من المتقدمين، ومن قرأ " اللآلئ المصنوعة " و " اللسان " و " تعجيل المنفعة " رأى من التعقب بمثل هذا على المذكورين وغيرهم الكثير ... والمقصود: أن الجهل بالرواي ليس ضعفا حقيقيا، وإنما هو مظنة قد ترتفع، وقد تكون مرفوعة في نفس الامر.
فابن حزم لما ضعف الحديث بجهالة الترمذي: لم يكن تضعيفه واقعا على الحديث إذ ذاك، لكون الترمذي إماما مشهورا حافظا ثقة باتفاق، ولكن ابن حزم جهله، لعدم اشتهار " سننه " بالافدلس في عصره، والكمال لله تعالى.
ثم إن المجهول لا يخلو من أن يكون حديثه معروفا أو مننكرا، فان كان معروفا فجهالته لا تضر، وإن كان منكرا وعرف تفرده به فهو - أي المجهول - ضعيف محقق الضعف حتى لو رفعت جهالته العينية برواية اثنين فصاعدا عنه، أو لم ترفع، فهو ضعيف مجروح خارج من حيز المجاهيل إلى حيز الضعفاء المحقق ضعفهم.
وبهذا الضابط يعرف المتأخرون ضعف الراوي المتقدم عنهم، أو ثقته
1) ، مع أنهم لم يروه ولم يعاشروه، بل يتكلمون في الرواة المتقدمين عنهم بمئات السنين ... وذلك أنهم يعتبرون أحاديث الراوي ويتتبعونها، فان وجدوها موافقة للاصول وأحاديث الثقات، ليس فيها تفرد بغرائب ومناكير، وليس فيها قلب ولا غلط ولا تخليط: حكموا بضبط الراوي وثقته
1) ، وإن وجدوها بخلاف ذلك: حكموا بضعفه وأنزلوه بالمنزلة التي تدل عليها أحاديثه من كونه وضاعا أو كثير الخطا فاحشه، أو غير ذلك مما له ألقاب تخصه
2) .