نام کتاب : الطبقات السنية في تراجم الحنفية نویسنده : الغزي، تقي الدين جلد : 1 صفحه : 249
ثم قدم بخارى أبو عبد الله الناتلي الفيلسوف، فأنزله أبي دارنا، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى الشيخ إسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت المناظرة والبحث، ثم ابتدأت على الناتلي بكتاب " إيساغوجي "، ولما ذكر لي أحد أن حد الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع، وأخذته في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، تعجب مني كل التعجب، وحذر والدي من شغلي بغير العلم، وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيراً منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر.
ثم أخذت أقرأ الكتب لى نفسي، وأطالع الشروح، حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب أقليدس، فقرأت من أوله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل باقيه، وانتقلت إلى المجسطي، ولما فرغت من مقدماته، واتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: حلها وحدك، ثم اعرضها علي، لأبين لك. فكم من شكل ما عرفه الرجل إلا وقت عرضته عليه، وفهمته إياه.
ثم سافر، وأخذت في الطبيعي والإلهي، فصارت الأبواب تنفتح علي، ورغبت في الطب، وبرزت فيه في مديدة، حتى بدأ الأطباء يقرأون علي، وتعهدت المرضى، فانفتح على أبواب المعالجات النفسية من التجربة مالا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وعمري ست عشرة سنة.
ثم أعدت قراءة المنطق، وجميع أجزاء الفلسفة، ولازمت العلم سنةً ونصفا، في هذه المدة ما نمت ليلة واحدة في بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً، فكل حجة أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيها عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحيز في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق منه، وتيسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، واشتغل بالكتابة والقراءة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما غلبني أدنى نوم أحلمُ بتلك المسائل بأعيانها.
ثم إن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام، حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكل ما علمته في ذلك فهو كما علمته، لم أزد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب " ما بعد الطبيعة " فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت ": هذا كتاب لا سبيل إلى تفهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادى عليه، فعرضه علي فردته رد متبرم، فقال: أنه رخيص بثلاثة دراهم. فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب " ما بعد الحكمة الطبيعة "، ورجعت إلى بيتي، وأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، ففرحت وتصدقت بشيءٍ يسير، شكراً لله تعالى.
واتفق لسلطان بخارى، نوح بن منصور، مرض صعب فأجى الأطباء ذكرى بين يديه، فأحضرت وشاركتهم في مداواته، وسألته الإذن في دخول خزانة كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من الكتب، وكتبها، فأذن لي، ودخلت فإذا كتب لا تحصى في كل فن، ورأيت كتباً لم تقع أسماؤها إلى كثير من الناس، فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه، فلما بلغت ثمانية عشر عاماً من العمر، فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم انضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيءٌ.
وسألني جارنا أبو الحسين العروضي، أن أصنف له كتاباً جامعاً في هذا العلم، فصنفت له " المجموع "، وسميته به، وأتيت به على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة.
وسألني جارنا الفقيه أبو بكر البرقي الخوارزمي وكان مائلاً إلى الفقه والتفسير والزهد، شرح الكتب له، فصنفت له كتاب " الحاصل والمحصول " في عشرين مجلدة، أو نحوها، وصنفت كتاب " البر والإثم "، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، ولم يعرفهما أحداً.
نام کتاب : الطبقات السنية في تراجم الحنفية نویسنده : الغزي، تقي الدين جلد : 1 صفحه : 249